إصلاحات طلال بن عبد العزيز

إصلاحات طلال بن عبد العزيز

24 ديسمبر 2018
+ الخط -
جاءت صحفٌ ومواقع إلكترونية في تعريفها بالأمير السعودي طلال بن عبد العزيز، في خبر وفاته أول من أمس عن 87 عاما، على تزّعمه جماعة الأمراء الأحرار، في العام 1958، وتبنّيه أفكارا اشتراكية. والأرجح أن التعجّل، واستسهال ترديد الشائع، سببان لاستعادة هذا الكلام الذائع عن الرجل، من دون فحصِه، فيما احتاج الأمر عودةً إلى ما قاله الراحل نفسُه عن "اشتراكيته" تلك، وأولئك "الأمراء الأحرار". كما أن التعرّف إلى سيرة هذا الأمير سيفيد بأنه كان صاحب أفكارٍ إصلاحيةٍ مبكرةٍ في بلده، تُرينا إضاءةٌ عليها أنها متقدّمة كثيرا على إصلاحاتٍ يُقال، كذبا، إن ولي العهد الراهن، محمد بن سلمان، يعمل على تحقيقها. ولا تزيّد في الزّعم هنا إن الأفكار التي طرحها طلال بن عبد العزيز، في خواتيم خمسينيات القرن الماضي ومطالع ستينياته، لو قيّض لها من يُنزلها واقعا متحقّقا، لكانت المملكة غير التي نعرف، ما كان سيصير له أثرُه الظاهر في الجوار الخليجي كله. 

ليس طلال بن عبد العزيز اسما عاديا في تاريخ بلده. هو من الأنجال ال 74 (!) للملك المؤسس، عبد العزيز بن سعود، كان قريبا من والده، ولاه وزارةً ولمّا يصل إلى العشرين عاما. والأهم أنه، منذ شبابه الأول وحتى وفاته، ظل صاحب نزوعٍ خاصٍّ، ومختلف، بين إخوته الكثيرين، الملوك والأمراء، إذا كان لا يجوز وصفه نزوعا ثوريا ولا انشقاقيا، فإنه يجوز القول إن فيه شحناتٍ من السمتيْن، فقد ظلّ الأمير مشدودا إلى المحافظة، وإلى التمسّك بولاية العائلة وحكم الشريعة، لكنه وجد أن في الوسع إحداثُ مساحةٍ ديمقراطيةٍ في ملعب الحكم، وإنْ بالثوابت المعلومة. ومفردة الديمقراطية هنا ليست من عنديات صاحب هذه الكلمات، وإنما نَطَقَ بها طلال بن عبد العزيز من دون حرج، وكان يستخدمها في تصريحاتٍ ومقالات في صحيفتي الرياض والقصيم قبل نحو ستين عاما، الأمر الذي يجعل هذا الرجل، المتزوج في شبابه من ابنة أحد زعماء استقلال لبنان (رياض الصلح)، استثنائيا بمنطق ذلك الزمان.
توفّر مقابلاته في "شهادة على العصر" في قناة الجزيرة مادةً مهمةً للتعرّف جيدا على حدود أفكاره تلك. اعتصم بالامتناع عن قول كثيرٍ كان ضروريا أن يقوله لتكون شهادتُه أوفى، ووعد بقوله إلى أن يحين الوقت. وها هو رحل إلى دار البقاء، ولم يوضح مقاطع مشوشةً في مرحلةٍ حساسةٍ في تاريخ بلده. ولكن الأهم أن الرجل يحسم أن قصة جماعة الأمراء الأحرار هي من اختلاق الإعلام المصري، لمّا وصل لاجئا إلى القاهرة في 1962، مع اثنين من إخوته، من بيروت، بعد أن أعطاهم جمال عبد الناصر جوازات سفر، بدل التي سحبتها منهم سلطات المملكة. وهو الذي كان على صلةٍ سابقةٍ بالزعيم المصري، وجالَسه يوما في 1958 سبع ساعات، سأله في أثنائها عن سبب عدم وجود مصريٍّ مسيحيٍّ بين أعضاء مجلس قيادة الثورة!
ظل طلال يقول إنه مع التيار الناصري العروبي ضد الاستعمار، وكان "يجفل" (بتعبيره) من الاشتراكية. زعل من عبد الناصر بسبب ضرب الجيش المصري أراضي سعوديةً في أثناء الحرب (بالوكالة) في اليمن. عاد إلى بلده، وقناعته بأنه مهما اشتدّت الخلافات، فإنه وإخوته باقون في بلدهم. الأهم من هذا الكلام، ومن كل الحكايات (بعضها شائق) أن هذا الأمير عارض، قبل أزيد من خمسين عاما، وجود قاعدة أميركية في بلاده (تخيّلوا أميرا خليجيا يقول هذا في 2018)، ولذلك سمّاه الأميركان الأمير الأحمر. والأهم أيضا أنه كان، في تلك الغضون، ضد التعذيب، وضد سجن الناس من دون محاكمة عادلة، ومع المساءلة والمحاسبة المدنية، ومع تقييدٍ لسلطات العائلة المالكة الحاكمة. أكثر من هذا إنه طالب، إبّان إزاحة أخيه الملك سعود وتولي أخيه فيصل المُلك (1964) بنظام أساسي للدولة (تحرّزا من لفظة الدستور، بحسب قوله)، ومجلس وطني (سماه مجلس شورى تحسّبا) يتألف من أعضاء منتخبين في المجالس البلدية. قال إن الملك سعود رفض في البداية هذه المبادئ (كما يسمّيها) الإصلاحية، غير أنه قبلها تاليا، وإنها كانت متداولةً مع فيصل استحقاقا عليه ليتولى المُلك. وعندما يستقيل من هيئة البيعة في العام 2011، معترضا على شكلانية وجودها، فذلك يعني أن طلال بن عبد العزيز حافظ، في شيخوخته، على أنفاسٍ مما آمن به شابا. وكثيرٌ مما آمن به، ودعا إليه، مضادٌ تماما لما يقترفه شاب إصلاحي زائفٌ اسمُه محمد بن سلمان.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.