أكاديمية القلق

أكاديمية القلق

11 يونيو 2017
تجهيز لـ تشارلز بيتيلون / فرنسا
+ الخط -

لم يكن ثمة شيء قبل أن أخطو من هذا الباب، ثلاثة صفوف من المقاعد امتدت على طول القاعة، في كل صف ثمانية أشخاص جلسوا وأمامهم إناء زجاجي امتلأ بسائل زئبقي ثقيل، لونه متغير حسب زاوية الرؤية، يحيط بالآنية عدد من الأنابيب والصمامات وبعض الأسلاك، ويخرج منها أنبوب طويل ينتهي طرفه الآخر بمحقن وضع على اللوح المقابل للمقعد. مر رجل ذو زي أسود من بين صفين حتى وصل نهاية القاعة، نظر إلينا وقال سيبدأ الآن الاختبار، اغرزوا المحاقن في أوردتكم ودعوا القلق يمر، عشرة منكم فقط ستستقبل الأكاديمية هذا العام، عشرة سيمر عبرهم القلق حتى يستسلم أربعة عشر منكم.

كنت أجلس في المقعد الأخير من الصف الأوسط، وبعد أن أدخلت المحقن في وريد يدي اليمنى، لم يكن الانتظار مملًا كما كان في امتحانات الجامعة. في هذه الغرفة المريبة لا أرى سوى ظهور الزملاء وانعكاسات وجوههم الضبابية على الجدران المعدنية والأرضية الرخامية الناصعة. لم أفكر في شيء ولم أحلم، لم أتذكر، لم أبحث عن قطرات العرق على أعناق زملائي، ولم أكترث لسقوط رؤوس بعضهم على اللوح المتصل بمقاعدهم، كان ذهني صافيًا تمامًا من كل شيء سوى القلق، القلق النقي المحض، لا يشوبه شعور آخر، ما أروع ذلك!

زمن لا أستطيع تخمينه مر، الزمن هنا مختلف، هذه المرة الأولى في حياتي أجلس في مكان خالٍ تمامًا من الملل أو التفاهة، لطالما اشتكيت من فقدان الشعور بالثمالة إثر تناول الكحول، لكن هذه الثمالة لا مثيل لها، إذ يغدو كل شيء متوتر ومستنفر، وكل خلية في الجسد مستعدة للانفجار، ومع ذلك يغلب السكون على كل شيء، أتخيل نفسي الآن قاتلًا مأجورًا ينتظر إكمال سيجارته قبل أن ينهض ويقتل جميع الجالسين حوله. نقصت القاعة ستة زملاء، وأرجو ألا يتناقصوا أسرع، لا أريد لهذه التجربة أن تنتهي، ما يقارب الـ 15% من محتوى الإناء نفد، ورغم الصمت الرهيب الذي كان في القاعة كنت أرغب بشدة ساذجة أن أسأل الرجل الواقف شيئًا. هل يمكن ذلك يا ترى؟ تدليس الصمت المقدس بسؤال سخيف مني؟ لا أعرف إن كان قد انتبه لرغبتي بقول شيء، لكن المهم أنه كسر حاجز الصمت وقال، إن كان لدى أحد منكم سؤال عليه ألا يتردد بطرحه. لم يكمل نفث الهواء المصاحب لنطق حرف الـ هاء حتى قلت: عفوًا، إن نفد الإناء قبل الوصول إلى العدد المرجو هل يمكن لنا البدء بإناء آخر؟

ثلاثة عشر غادروا، لم يعد الحال كما كان في بادئ الأمر. العرق البارد يغلف وجهي، وكفا يداي بدأتا بالارتجاف، الرجل الذي كان واقفًا شرع بالدوران بين الصفوف لتحريك الدم في قدميه، الآن بدأ يشعر أن تساؤلي لم يكن يستدعي سخريته، لم يتبق في هذه الأواني الكثير، أقل من ربع كمية السائل ترتجف في القعر أثر اهتزاز المقعد الذي يسببه ارتجافي، نظري أصبح بؤريًا كما تصور لنا الأفلامُ العالمَ من وجهة نظر الطائر، ربما كانت الحرية متصلة بالقلق، وربما إذا نفدت الآنية سأتمكن من الطيران، أو ربما ستفعل روحي، بطريقة ما يشبه انخفاض مستوى السائل النزيف، وهو ليس تخيلًا صاخبًا، هذا السائل يستبدل نفسه بدمي فعلًا، حالتي تزداد سوءًا وأخشى أن أستسلم قبل المتسابق الرابع عشر، ستكون سخرية المراقب في محلها ذلك الوقت، لكن لن يحدث ذلك.

الممر الطويل المنار بأضواء خفية، قد لا يكون طويلًا، كنت أظن أنني أمشي منذ ساعات لكنني حين التفتُّ وجدت الباب الذي دخلت منه لا يبعد عني سوى بضع خطوات فقط. لا شك أن ما فعلناه كان عظيمًا، آخر المنسحبين من القاعة أُخرج مغشيًا عليه، كان يهذي بشيء أخافه، صورة من ماضيه، أو تخيل نزق. أنا في منتصف الممر ومن الواضح أن الحديث مع نفسي يجعل الامر أسهل.

لا زال الصمت يخيم على كل شيء، حتى على خطواتنا المتهالكة، نسحل أقدامنا إلى الأمام على كعوبها ولا صوت، نتنفس كالغرقى في ممر صامت ولا صوت، لكن رؤوسنا تتحدث بحدة، حتى يكاد صدى رنين فكر أحدنا يصطدم بصدى رنين فكر الآخر، في نهاية الممر تجلس امرأة، أول امرأة نراها منذ دخولنا، وضعت على المنضدة أمامها عشر هويات تعريفية، وعلى وجهها ابتسامة لم تناسب المشهد، لا زلت في آخر الصف كما بدأت هذا الاختبار، كنت أسمعها تخبر الجميع ذات الجملة "مبارك لك قبولك في أكاديمية القلق"، وقبل أن يصل الدور لي صعقني سؤال في رأسي، كيف وصلت إلى هنا في بادئ الأمر؟ وقبل أن أفكر في الإجابة وجدت نفسي أمامها، قالت: يمكنك الاستيقاظ الآن.

على السلم المؤدي إلى المطبخ لا زلت أحارب فكرة أن كل ما مر كان حلمًا، لكن النهوض من الفراش وصوت الحوار بين والديَّ يؤكد ذلك، كم يبدو الأمر ساخرًا أن تكون بداية الكابوس الاستيقاظ منه، لم أشعر حتى في آخر اللحظات التي سبقت سقوط الزميل الرابع عشر بالرعب كما شعرت الآن، استكثر الواقع عليَّ حياة كابوسية، كانت أمي تسكب لي الشاي، وبعد أن دفعت لي الكأس قالت احذر أن تسقط منك الكأس على ورقة القبول في الأكاديمية.

 

المساهمون