"موال الشجن"... فكرة أمام البناية 34

"موال الشجن"... فكرة أمام البناية 34

25 سبتمبر 2018
(برفقة وردة الجزائرية)
+ الخط -
في تلك اللحظة الحزينة من ذلك الصباح الشتوي الماطر، وأنا أقف أمام البناية رقم 34 بشارع بهجت علي في حي الزمالك الراقي، وُلدت فكرة كتابي عن بليغ حمدي. لم تكن فكرة، بل وعداً قطعته للرجل الذي استدعاني يومها لأشهد على ما أسماه الاغتيال الثاني المتعمد لبليغ حمدي. الرجل هو المطرب الشعبي المرموق محمد رشدي الذي ارتبط مع بليغ بتجربة غنائية وعلاقة إنسانية فريدة، وكان رشدي هو بوابتي إلى عالم بليغ الساحر.

في ذلك اليوم اصطحبني رشدي إلى البناية التي يحتل مكتب بليغ طابقها الأول. المكتب الذي طالما جلس فيه مع صاحبه وعاش لحظة ميلاد أعذب ألحانه، ولما رحل بليغ أقام صاحب الشقة دعوى قضائية لاستردادها لأن مستأجرها ليس له وريث، وفي اليوم الذي كسب فيه الدعوى اقتحم الشقة وألقى كل متعلقات بليغ أمام بابها. والآن أنا مع محمد رشدي لنجمع تلك المتعلقات. لم يحتمل الرجل العملاق المشهد فسالت دموعه وهو يوجه لي تلك الكلمة الموجعة: تعال نلم بليغ من على الأرض!

على الأرض، كان هناك عود بليغ والنوتات الموسيقية بخطه لأشهر ألحانه، بالإضافة إلى كتبه وأوراقه وملابسه، وكان علينا أن "نلمّ" بليغ من على الأرض ونضعه في "كراتين" حملناها إلى شارع رأفت في حي شبرا حيث بيت عائلة بليغ. وبعد أن جفت دموعه، قال لي رشدي: مصر لم تعرف قيمة بليغ ولم تدرك ما قدم.. بليغ يحتاج إلى إعادة اكتشاف.. وإلى رد اعتبار.. يحتاج إلى من يكتب عنه بحب!

وكأنه كان يختارني لتلك المهمة.. ولم أملك سوى أن أعطيه وعداً قاطعاً! ومن حينها وأنا أوفي الوعد الذي قطعته لمحمد رشدي. وبعد ست سنوات قضيتها في جمع سيرة وأوراق وألحان بليغ حمدي، صدرت الطبعة الأولى من كتابي عن بليغ في عام 2000 (عن دار ميريت)، ونفدت طبعات الكتاب.

وبتوالي السنوات، تراكمت عندي حكايات وأوراق وشهادات اقتضت صدور طبعة جديدة مؤخراً، كان أهم ما يميزها ذلك الفصل الخاص الذي يحمل أوراق الملف القضائي لما اشتهر باسم قضية سميرة مليان، نسبة إلى الفتاة المغربية التي انتحرت من شقة بليغ في عام 1984 وتسببت له في مأساة كان عليه أن يدفع ثمنها غالياً.. حياً وميتاً.

يحتوي الكتاب على أوراق بخط بليغ وتسجيلات بصوته تحكي سيرته، وشهادات لرفاق رحلته: الأبنودي ورشدي ووردة وعفاف راضي ووجدي الحكيم، وشقيقه مرسي سعد الدين وابن شقيقه هيثم حمدي الذي تربى في بيت بليغ كابن. بالإضافة إلى فصل يحتوي على تفاصيل السنوات التي قضاها في المنفى بباريس هارباً من حكم بالسجن في القضية التي دمرت حياته وعطلت تدفقه الإبداعي.. ويختتم الكتاب بقائمة لألحان بليغ التي تزيد على 1500 لحن.

ورغم سعادتي بالكتاب "موال الشجن.. سيرة وأوراق وألحان بليغ حمدي"، بقدر دهشتي أنه الكتاب الوحيد الذي صدر عن هذا الموسيقار الكبير طيلة 25 عاماً من رحيله؛ فحياة بليغ الفنية والإنسانية تحتمل كتباً ودراسات، وتحتمل إبداعاً يليق بما قدمه. وقريباً ستنفتح ستارة مسرح البالون عن أوبريت كبير عن بليغ وسيرته، تشرّفت بكتابته. يجسد المطرب محمد الحلو شخصيته، ويخرجه د. عادل عبده.. أوبريت أتمنى أن يليق بصاحب "سيرة الحب".

دلالات

المساهمون