"حرب" على الأمراء السعوديين

"حرب" على الأمراء السعوديين

02 سبتمبر 2020
حضر الأمير فهد إلى الخطوط الأمامية للقتال أكثر من مرة (فايز نور الدين/فرانس برس)
+ الخط -

يواصل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إزاحة كل شخص قد يهدد صعوده السياسي، ليؤكد من جديد "الثمن الفادح للتغيير"، وفق تعبير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها، أواخر العام 2019، وصفت خلاله تشديد القمع في عهد بن سلمان، لتقبع "وراء المظاهر البرّاقة التي أحاطت بصورة بن سلمان في الخارج حقيقة مظلمة". وتحدثت المنظمة عن عدد هائل من المستهدفين والمعتقلين بعد 2017، فضلاً عن إطلاق ممارسات قمعية جديدة لم تشهدها المملكة في العهود السابقة، والتي تضمنت احتجاز أفراد بحجة الفساد، ومن بينهم العديد من أمراء الأسرة الحاكمة.

وفي فصل جديد من الحرب على الأمراء في السعودية، جاء قرار إقالة قائد القوات المشتركة للتحالف الذي تقوده الرياض في اليمن، أي القائد الفعلي للحرب على اليمن، الأمير فريق ركن فهد بن تركي بن عبد العزيز آل سعود، وابنه نائب أمير منطقة الجوف الأمير عبد العزيز بن فهد بن تركي آل سعود، وإحالتهما إلى التحقيق برفقة أربعة موظفين بتهمة وجود "تعاملات مالية مشبوهة" في وزارة الدفاع. إقالة الأمير فهد بن تركي وابنه وإحالتهما للتحقيق، لا تبتعد عن موقع الأمير فهد في القوات العسكرية السعودية ومنصبه كقائد للقوات المشتركة للتحالف في اليمن، وأحد أكثر القادة العسكريين احتراماً داخل الدوائر العسكرية السعودية التي تعاني بشدة في حربها الطاحنة مع الحوثيين، إضافة إلى ارتباط الأمير فهد بجناح أبناء العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز عن طريق زوجته عبير، التي حصلت على جزء كبير من ثروة والدها الراحل، والتي يلاحقها بن سلمان.

اكتسب الأمير فهد سمعته العسكرية بعد انطلاق عملية "عاصفة الحزم"، إذ انتقل إلى الحدود اليمنية وقاد تشكيلات من النخب العسكرية للجيش السعودي

ساهم الأمير فهد في عدد من الحروب التي خاضتها السعودية، وأبرزها حرب تحرير الكويت عام 1991، حيث عمل في وحدات المظليين وقوات الأمن الخاصة، التي تعتبر واحدة من نخب التشكيلات العسكرية في الجيش السعودي، قبل أن يعيّن نائباً لقائد القوات البرية وقائداً لوحدات المظليين وقوات الأمن الخاصة في مارس/ آذار عام 2013. لكن الأمير فهد اكتسب سمعته العسكرية بعد انطلاق عملية "عاصفة الحزم" التي استهدفت دعم الشرعية في اليمن، إذ انتقل إلى الحدود اليمنية وقاد تشكيلات من النخب العسكرية للجيش السعودي في عمليات ضد الحوثيين. وفي عام 2017 حصل على رتبة فريق ركن وعيّن قائداً للقوات البرية قبل أن يرقى مرة أخرى ليصبح قائد العمليات المشتركة الخاصة وقائد القوات المشتركة لدعم التحالف في اليمن. وصورت مقاطع عديدة للأمير فهد وهو موجود في الخطوط الأمامية للجبهات القتالية للجيش السعودي على الحدود اليمنية السعودية، أو يشرف على القوات اليمنية التي تدعمها السعودية في مأرب وصعدة وميدي، وهو أمر نادر بالنسبة لقائد عسكري من الأسرة الحاكمة.

وزادت شعبية الأمير فهد عقب ظهور مقاطع فيديو له عام 2016 وهو يجول في مناطق الصراع العسكري داخل اليمن في وقت وفاة والده الأمير تركي. وطوال فترة الحرب التي امتدت لأكثر من خمس سنوات، اكتسب الأمير فهد زخماً عسكرياً كبيراً في أوساط الجنود السعوديين الذين عانوا من خسائر كبيرة بسبب وعورة الجغرافيا الحدودية مع اليمن، وهو أمر قد يمثل خطراً على بن سلمان الذي يرى في كل أمير سعودي يملك شعبية أو يحظى برضى دولي خطراً كبيراً عليه.

وطوال سنوات، عرفت الأسرة الحاكمة السعودية صراعات ومناوشات بين أجنحة وأمراء وتحالفات داخل الأسرة تستهدف الصعود وتولي مقاليد حكم البلاد، لكن بن سلمان ومنذ اليوم الأول لتوليه منصب وزارة الدفاع، مطلع عام 2015، بعد تولي والده الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم، قرر نقل الصراع إلى مرحلة جديدة تمثلت في مطاردة واعتقال وتعذيب الأمراء المنافسين له، أو الذين يشك في كونهم يتآمرون عليه ويعيقون طريق وصوله إلى الحكم. بدأ بن سلمان حملة اعتقالاته باختطاف الأمير سلطان بن تركي آل سعود (وهو شقيق الأمير فهد بن تركي المقال أخيراً)، عام 2015، بعد إيهامه بأن طائرته ستهبط في مطار القاهرة، لكن طاقم الطائرة التابعة للديوان الملكي اتجه بها إلى الرياض وقام بتسليم الأمير سلطان إلى المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، والذي تبين أنه هو الذي قام بترتيب عملية استدراجه.

ولم يكن الأمير سلطان بن تركي، الذي تعرّض للاختطاف على يد الأمير عبد العزيز بن فهد (نجل العاهل السعودي السابق)، عام 2003 أيضاً بسبب انتقاده للملك فهد آنذاك، أميراً منافساً، بل كان مجرد أمير يتجول في أوروبا معتمداً على مدفوعات الديوان الملكي لديونه المستحقة للفنادق والمطاعم التي يرتادها مع حاشيته، لكن تصريحاته المستمرة والمتبرمة ضد الأسرة الحاكمة التي لم تعطه ما يكفيه من الأموال أدت إلى اختطافه مرتين وعلى أيدي أميرين مختلفين. لم ير أمراء آل سعود في حادثة اختطاف الأمير سلطان بن تركي عام 2015 ما يثير قلقهم، بل على العكس شجع البعض التعامل مع "المتمردين" خارج العائلة والذين يسيئون لسمعتها في الخارج.

لكن بن سلمان بدأ بالتكشير عن أنيابه عقب توليه منصب ولي ولي العهد (أواخر إبريل/ نيسان 2015)، وسيطرته على شركة "أرامكو" كرئيس المجلس الأعلى لها، وسحبه كافة الصلاحيات الأمنية والداخلية من ولي العهد، وزير الداخلية آنذاك الأمير محمد بن نايف، وإقالة مستشاريه الأمنيين المحيطين به، مثل سعد الجبري، الذي صار لاجئاً في كندا اليوم. لكن الأمور لم تصل إلى درجة الاعتقال أو التشهير وبقيت طي الكتمان داخل الأسرة الحاكمة، مع وجود بعض التسريبات الصحافية. لكن قرار عزل محمد بن نايف من ولاية العهد، أواخر شهر يونيو/ حزيران عام 2017، وتولي بن سلمان مقاليد الأمور بشكل رسمي، أدى إلى فتح باب الجحيم على أمراء الأسرة الحاكمة، إذ بدأ بن سلمان بفرض الإقامة الجبرية على بن نايف ومنعه من الخروج أو التواصل مع أي شخص خارج دائرة ضيقة يحددها بن سلمان نفسه. واعتقل بن سلمان الأمير عبد العزيز بن فهد، نجل العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، بسبب تصريحات اعتبرها بن سلمان مهينة لحليفه ولي عهد إمارة أبوظبي محمد بن زايد في موقع "تويتر".

ضرب بن سلمان ضربته الكبرى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، عندما قام باعتقال عشرات الأمراء من الصفوف المتقدمة ومئات رجال الأعمال في "الريتز كارلتون"

ثم ضرب بن سلمان ضربته الكبرى تجاه كبار أمراء الأسرة الحاكمة ورجال الأعمال الموالين لهم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، عندما قام باعتقال عشرات الأمراء من الصفوف المتقدمة (أحفاد المؤسس عبد العزيز بن سعود)، ومئات رجال الأعمال في "الريتز كارلتون"، بتهم فساد وتربح غير مشروع. وكان من أبرز الأمراء المعتقلين الأمير متعب بن عبد الله آل سعود، نجل العاهل السعودي الراحل ووزير الحرس الوطني، والذي كانت تعده حاشية والده الراحل ليرث الحكم بعد أبيه، وهي الخطة التي قفز عليها بن سلمان نفسه في ما بعد. واستُجوب الأمير متعب واتُهم علناً وفي التلفزيون الرسمي بالتورط في قضايا فساد وصفقات أسلحة وملابس ومأكولات وهمية أثناء توليه منصب وزارة الحرس الوطني، ليتنازل مجبراً عن جزء كبير من ثروته بعد إعفائه من كافة مناصبه وإقصائه من المشهد السياسي. واعتُقل أخوه الأمير تركي بن عبد الله، أمير الرياض السابق، بتهم وجود فساد خلال توليه إمارة الرياض والاستيلاء على أموال مشاريع ضخمة، مثل مشروع مترو الرياض. وتعرض مدير مكتب الأمير تركي، اللواء علي القحطاني، للتعذيب داخل "الريتز كارلتون" ليلقى حتفه، فيما لا يزال مصير الأمير تركي مجهولاً حتى بالنسبة لعائلته.

وشملت الاعتقالات رجل الأعمال الأمير الوليد بن طلال، الذي تباهى لسنوات طويلة بثروته الطائلة ونجاحاته الاستثمارية في عالم المال من خلال شركته "المملكة القابضة" ومجموعة "روتانا الإعلامية"، واتُهم بالفساد وغسيل الأموال ليتنازل عن الجزء الأكبر من ثروته، بما فيها مجموعته الإعلامية "روتانا". واعتقل شقيق الأمير خالد بن طلال، شقيق الوليد، والذي رفض التنازل عن ثروته قبل أن يتعرض للضغط والتعذيب ليخرج من السجن في وقت متأخر من عام 2018. كما اعتقل كل من الأمير تركي بن ناصر بن عبد العزيز آل سعود، والأمير فهد بن عبد الله بن محمد آل سعود، بتهم فساد في صفقات الأسلحة، وهي طريقة كانت طبيعية للحصول على الثروات بالنسبة للأسرة الحاكمة طوال سنوات. وعلى الرغم من أن كافة الأمراء الذين دخلوا "الريتز كارلتون"، عدا الأمير تركي بن عبد الله الذي لا يزال مصيره مجهولاً، قد خرجوا من السجن، إلا أنهم تعرضوا لسحب جزء كبير من ثرواتهم، وإنهاء أي دور سياسي لهم تماماً.

وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، في مارس/ آذار 2018، أن 17 شخصاً احتاجوا للدخول إلى المستشفى بسبب سوء المعاملة من قبل السلطات في "الريتز كارلتون" في 2017. من جهتها، طالبت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، حينها، السلطات السعودية بالتحقيق الفوري في ادعاءات تعذيب معتقلي "الريتز كارلتون". وقالت المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة سارة ويتسون إن "سوء المعاملة المزعوم في فندق ريتز كارلتون، يشكّل ضربة خطيرة لمزاعم بن سلمان بأنه إصلاحي عصري، في الوقت الذي يعمل فيه على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية"، مطالبة المستثمرين بأن "يفكروا مرتين في تجاهل السعوديين سيادة القانون والحقوق الأساسية، قبل أن يستثمروا بالمملكة". وحذرت المنظمة في تقريرها، من أن الاعتقالات الجماعية بشأن مزاعم الفساد أثارت مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، وبدا أنها "تمت خارج أي إطار قانوني معروف، حيث أرغم المعتقلون على مقايضة أصولهم المالية والتجارية بالحصول على حريتهم".

في يناير 2018، تجمهر عدد من أفراد الأسرة الحاكمة أمام قصر الحكم في الرياض محتجين على قرارات تقليص مصروفاتهم المالية، ليقرر بن سلمان اعتقال 11 أميراً منهم

وفي شهر يناير/ كانون الثاني عام 2018، تجمهر عدد من أفراد الأسرة الحاكمة من فرع "سعود الكبير" أمام قصر الحكم في الرياض محتجين على قرارات العاهل السعودي وابنه بتقليص مصروفاتهم المالية، ليقرر بن سلمان اعتقال 11 أميراً منهم، ونشر خبر الاعتقال في وكالة الأنباء السعودية الرسمية، وهو ما عد سابقة تاريخية في تطورات الصراع. لكن الاحتجاجات، وفق ما يقول معارضون سعوديون، لم يكن سببها المزايا المالية فحسب، بل بسبب ما يراه أمراء الأسرة الحاكمة من استهداف مباشر لهم من قبل بن سلمان على الصعيد السياسي والإعلامي ومحاولته مصادرة كل مكتسباتهم المالية والاجتماعية ومنع الغالبية الساحقة من أمراء الأسرة الحاكمة من السفر.

ولا تخلو الاعتقالات التي يقوم بها بن سلمان من الشخصانية، إذ اعتقل الأمير سلمان بن عبد العزيز بن سلمان بن محمد آل سعود والمتزوج من ابنة العاهل الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بـ"دافع الغيرة الشخصية"، وفق ما قال محامو الأخير في يناير/كانون الثاني 2018. وقالت مجلة "لوبوان" الفرنسية إن الأمير سلمان "بدا مميزاً أكثر من اللازم" بسبب تخرجه من جامعة السوربون، وإجادته لعدد من اللغات وعلاقاته الدولية المتعددة.

وكانت آخر حملة اعتقالات كبرى لأمراء الأسرة الحاكمة قد تمت في شهر مارس/ آذار الماضي، عندما اعتقلت السلطات الأمنية 20 أميراً، بينهم أحمد بن عبد العزيز، شقيق العاهل السعودي، والأمير محمد بن نايف، الذي أعيد اعتقاله مرة أخرى مع أخيه غير الشقيق الأمير نواف بن نايف أثناء وجودهما في رحلة صيد خارج الرياض، والأمير نايف بن أحمد بن عبد العزيز وأمراء آخرون. وقالت وكالة "رويترز" نقلاً عن مصادرها، إن الأمراء المعتقلين اتهموا بـ"التخطيط لمحاولة انقلابية بالتعاون مع جهات أجنبية، ومنها جهات أميركية". لكن وكالة "أسوشييتد برس" قالت إن اعتقال الأمير أحمد بن عبد العزيز كان بسبب انتقادات وجهها لبن سلمان في مجالسه الخاصة حول آليات تعامله مع فيروس كورونا وقرار إغلاق الحرم المكي. ولا يزال المئات من أمراء الأسرة الحاكمة ممنوعين من السفر، فيما يسافر الأمراء الآخرون بعد الحصول على موافقة مشروطة من بن سلمان وذلك لضمان عودتهم إلى البلاد.

المساهمون