"بعيداً عن الرجال": اقتباس كامو بروح كيبلينغ

"بعيداً عن الرجال": اقتباس كامو بروح كيبلينغ

11 مارس 2015
من الفيلم
+ الخط -

يعود المخرج الفرنسي دافيد أولهوفن إلى قصة الكاتب الفرنسي ألبير كامو، "الضيف"، في فيلمه "بعيداً عن الرجال" الذي يعرض حالياً في قاعات السينما. وقد كتب كامو القصة سنة 1954، ونشرها ضمن المجموعة القصصية "المنفى والملكوت" (1957).

تقع أحداث قصة "الضيف" في فصل الشتاء، قبيل اندلاع حرب التحرير الجزائرية (1954). وبقي الفيلم محتفظاً بهذا الارتباط، فيظهر منذ البدء مدرّس إسباني يدعى دارو (فيغو مورتنسن)، وهو يترقب صعود رجلين إلى قمة الجبل، أحدهما على صهوة جواد، بينما يسير الثاني على قدميه، مكبّل اليدين.

يدرك من قرأ القصة أن أحداث الفيلم لا تدور في بلاد القبائل، كما كتبها كامو، بل في جبال الأطلس في المملكة المغربية، علماً أن علاقة كامو بالقبائل كانت متينة. يقترب الرجلان من مشارف المدرسة الواقعة على سفح الجبل، فيتعرف دارو إلى الدركي بالدوتشي. وبمجرد وصولهما إلى المدرسة، يقوم بالدوشي بتسليم العربي لدارو، ويأمره بنقله إلى مركز الشرطة في قرية تيغيت.

يدرك دارو أن العربي، ويدعى محمد (رضا كاتب) متهم بقتل أحد أبناء عمومته، فيبدي في البداية رفضاً قاطعاً لفكرة نقل محمد إلى مركز الشرطة لأن ذلك يعني الذهاب به إلى موتٍ أكيد. لكن بمجرد وصول أقارب الضحية إلى مشارف المدرسة، تحذوهم رغبة الثأر، فيوافق على المهمة وينطلق برفقة السجين نحو تيغيت.

ينتاب المشاهد خلال اللقطات الأولى شعورٌ بالنفور من محمد، بعد أن قدّمته كاميرا ألهوفن في صورة شخص خاضع للمستعمر، لا يفكر حتى في إيجاد طريقة للتحرر، مثل مَن يسير نحو الموت برجليه. وتأتي تسمية العربي (محمد) واضحة في الفيلم، على النقيض من القصة، إذ لم يعطه كامو أي اسم، ونعته بـ"العربي"، كما في روايته "الغريب"، حيث لا نعرف اسماً للعربي الذي قتله ميرسو.

بيد أن الفيلم يحتفظ بروح القصة، خصوصاً في ما يتعلق بتبعية العربي للمدرس الإسباني خلال طريقهما إلى مركز الشرطة، حيث يظهر دارو في صورة الرجل المُدبّر والمفكر والمقدام، ويجسد روحاً خلاقة، بينما ينكمش محمد على نفسه ويكتفي بإعطاء رأيه في مسائل تتعلق بالأكل. وكأن الفيلم يسير وفق روح قصيدة روديارد كيبلينغ الشهيرة "عبء الرجل الأبيض" (1899) التي كتبها للتغني بالروح الكولونيالية. وتتجلى هذه الروح المتفوقة من خلال إدراك دارو أن من واجبه الأخلاقي التكفل بالعربي، وحمايته من ثأر بني جلدته.

ومع توغل الرجلين في جبال الأطلس، يحدث تقارب بينهما. لكن التماهي لا يتحقق بشكل كامل، لأن محمد يظل خانعاً وتابعاً وعاجزاً عن الرغبة في إبراز أي نية للتحرر. وحتى حين يقرر دارو مساعدته على الفرار، يرفض الاقتراح ويصرّ على التوجه إلى العدالة الفرنسية من أجل محاكمته.

ولا يحدث تحوّل في شخصية محمد العربي، إلا بعد أن تفطّن دارو إلى أنه يريد تسليم نفسه للفرنسيين، حتى يتخلى أبناء عمومته عن فكرة الثأر، ويموت كي يُحيي الآخرين. هذا الخيار يجعل دارو ينظر إلى محمد ببعض العطف والاحترام، فيتخلى عن نظرة اللامبالاة التي كانت تميزه خلال بداية الفيلم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن "العربي" في قصة كامو ظلّ يراوح مكانه كشخصية عادية لا قيمة لها حتى النهاية، بينما فضّل أولهوفن، الذي كتب سيناريو الفيلم، الخروج عن هذا السياق. فبعد إعطاء اسم للعربي، أضاف إليه ميزات إنسانية، نقلته من وضعية الخاضع والتابع إلى شخص مؤثر، ولو ضمن علاقته بالإسباني، أي أنه يفكر في مصيره، رغم إصراره على تسليم نفسه للغزاة والخضوع لقانونهم.

يدرك المشاهد أن دارو بدوره كان يعاني من قسوة الوضعية الكولونيالية، فالفرنسيون رفضوا تقديره واحترامه بسبب انتمائه إلى الأقلية الإسبانية، فيردد قائلاً: "الفرنسيون يعتبرونني عربياً، والعرب يعتقدون أنني فرنسي"، علماً أن دارو في قصة ألبير كامو ليس إسبانياً، بل فرنسي، وهذا خروج آخر عن روح القصة.

ولا يحدث التماهي النهائي في الفيلم بين الرجلين إلا بعد ارتكاب دارو جريمة مماثلة، بعد أن قتل أحد الرجال الذين كانوا يتبعون محمد ويريدون قتله. من هنا يكتشف أن ماضيه العنيف كان يتعقبه، ولم يتركه يعيش تلك الحياة الهادئة التي كان يتمناها حينما قرر الاستقرار في قرية نائية "بعيداً عن الرجال".

وهذا العنف الذي تركه وراءه واستعاده رغماً عنه، يصبح بمثابة وسيلة للثوار الجزائريين للتخلص من الوضعية الاستعمارية والتحرر منها، وهو العنف نفسه الذي يلجأ إليه أحد الضباط الفرنسيين حين يقتل ببرودة ثوريين جزائريين بعد أن يقعوا في الأسر.

يفقد دارو الحياة الهادئة التي كان يعيشها "بعيداً عن الرجال"، لأنه لم يشعر بقدوم الاضطراب في حياته، تماماً مثلما لم تشعر فرنسا بقدوم الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954. وفي هذا السياق، يقول أحد الثوار الجزائريين له: "فات أوان تدريس اللغة الفرنسية، فالزمن الآن هو زمن الثورة".

وبالفعل كان الثوار الجزائريون قد صعدوا إلى الجبال واختاروا طريق الثورة المسلحة بعد أن رفضت فرنسا الاستجابة لمطالبهم وإدخال إصلاحات على المنظومة الاستعمارية.

المساهمون