13 فبراير 2022
"الجهاديون" متمرّدون في حروب أهلية
لا يتوقف سيل الدراسات الغربية عن الحركات الإسلامية، خصوصاً العنيفة منها، بسبب ما تمثله من تهديد جدي وخطير على مستوى العالم شرقاً وغرباً. ولكن كثيراً من هذه الدراسات يمكن وضعه في خانة "الغث"، سواء بسبب سطحيتها وفشلها في قراءة الجذور الحقيقية لظاهرة العنف، وتفكيك سياقاتها وأسبابها، أو بسبب تصوراتها الساذجة عن الإسلام والمسلمين، والخلط المتواصل بين الدين والأيديولوجيا وسلوك الفاعلين. في حين أصبح حقل دراسة الحركات الإسلامية أشبه بسوق كبيرة من أجل تحقيق المال والشهرة والصعود السريع لنجوم الفضائيات ومراكز الأبحاث. لذا، لا عجب أن تجد كثيرين ممن يصفون أنفسهم "خبراء في شؤون الحركات الإسلامية" لا يعرفون الفرق بين الثيولوجيا والايديولوجيا، أو الفرق بين الأسباب والنتائج، فيما يخص ظهور كثير من هذه الحركات. فضلاً عن الحسابات السياسية والأيديولوجية والمالية التي تمول ماكينة البحث والإعلام في ما يخص هذه الظاهرة.
ما سبق أصبح كالمعلوم من الدين بالضرورة، لكنه لا ينفي أن ثمة أطروحات غربية جادة تتعاطى مع الظاهرة الإسلامية بشكل أكثر عمقاً وجدية، وبالقدر الذي تستحقه من الاهتمام. وهناك أسماء كبيرة أصبحت معروفة سواء في أوروبا أو في أميركا، تقوم بجهد بحثي متميز، ويقدمون أطروحاتٍ ذكيةً ومهمةً في فهم الحركات الإسلامية. وغالباً ما لا تروق أطروحات هؤلاء اليمين المتطرف الذي لا يفرق بين الدين والحركات التي تستخدمه إطاراً أيديولوجياً لتبرير سلوكها وجرائمها، ويرى أن المشكلة هي في الدين ذاته، على نحو ما نراه في أوروبا والولايات المتحدة.
ولعل من الأطروحات الجادة التي تناولت الظاهرة الجهادية وفكّكتها، خصوصاً في أوروبا، أطروحة الباحث الفرنسي والسوسيولوجي المعروف، أوليفيه روا، التي قدّمها عقب موجة التفجيرات التي ضربت فرنسا ومدناً أوروبية خلال العامين الأخيرين، وركز فيها على "أسلمة الراديكالية"، وليس "الإسلام الراديكالي" على نحو ما يفعل بعضهم. يجادل روا أن الظاهرة الجهادية في فرنسا محلية بحتة، مرتبطة بالظروف الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للشباب الفرنسي، خصوصاً المسلمين المهمشين، وأن انخراطهم في العنف لا يجب أن يتم تفسيره من خلال المتغير الديني فقط، بقدر ما يتعلق بالرغبة في التمرّد الكامنة لدى قطاعاتٍ من هذا الشباب الذي فقد الأمل في حياةٍ كريمةٍ ذات معنى وهوية.
وكانت أطروحة روا بمثابة نقلة نوعية في كيفية فهم (والتعاطي مع) ظاهرة العنف التي تزامنت مع ظهور تنظيم داعش وتوحشه. وقد حاول، من خلاله، وقف سيل الكتابات الغربية التي وقعت في فخ التفسيرات السطحية، المتعلقة بالدافع الديني الثاوي خلف التفجيرات التي قام بها الدواعش. كما أنه دفع باحثين آخرين إلى إعادة التفكير في تفسيراتهم بشأن المسألة، والخروج من التفسيرات المعلبة إلى تفسيرات جديدة أكثر عمقاً.
لذا، بدأ باحثون غربيون في إعادة النظر بالمسألة الجهادية من منظور مختلف. ومن بين هؤلاء البروفيسور ستاثيس كاليفس، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل العريقة، والذي نشر أخيراً دراسة جيدة وجديرة بالقراءة والتأمل بشأن ضرورة التعاطي مع الجهاديين، باعتبارهم متمرّدين في حروب أهلية، وليس مجرد فاعلين متطرفين دينياً. وقد نشرت دراسة كاليفس، قبل أيام، في المجلة العلمية المرموقة "دايدالوس" التي تصدرها الأكاديمية الأميركية للعلوم والآداب، وفيها أفكار جديرة بالتأمل والنظر. وتتمثل الأطروحة الرئيسية في الدراسة في أنه لا يمكن تفسير سلوك الجهاديين من خلال منظور الدين والإرهاب فحسب، وإنما يجب النظر إليهم باعتبارهم متمرّدين في حروب أهلية، كما يجب أن يتم فهمهم باعتبارهم أصحاب أيديولوجيا "ثورية"، وذلك من خلال تحليل سلوكهم وطريقة تعاطيهم مع الصراعات التي ينخرطون فيها. وقد وصل كالفيس إلى هذه النتيجة من خلال تحليل سلوك الجماعات الجهادية في سورية والعراق، ومقارنته بسلوك بعض الجماعات والتنظيمات الماركسية في أثناء مرحلة الحرب الباردة.
ويلفت كاليفس النظر إلى مسألة مهمة، تتعلق بالعلاقة الجدلية بين الجماعات المتمرّدة وطبيعة الدولة التي تتصارع معها، حيث يرى أنه في حالة قوة هذه الدولة، وضعف الجماعات التي
تواجهها، فإن الأخيرة تلجأ لتكتيكات العنف والإرهاب، على غرار ما يفعل تنظيم القاعدة. ولكن، إذا كانت الدولة ضعيفة، والجماعات المتصارعة معها قوية، ففي الغالب أن تستولي هذه الجماعات على مساحات وأقاليم من الدولة، كما هي الحال مع "داعش" في العراق وسورية، حين استولت على الموصل والرقة على التوالي. وهي هنا تشبه بعض الحركات الماركسية في أميركا اللاتينية التي نجحت في الاستيلاء على بعض المقاطعات في أثناء صراعها مع الحكومات خلال الخمسينات وحتى السبعينات.
نقطة أخرى مهمة، تتعلق بالطابع العالمي للجماعات المتمرّدة، فمثلما كان للحركات الماركسية امتدادات خارجية تستعين بها، وتستجلب منها الدعمين، المادي والبشري، فإن هذه هي الحال مع الجماعات الجهادية، سواء كانت "القاعدة" أو "داعش" التي أصبحت لها فروع في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، وكذلك في دول غربية. وهو ما يمكن تلمسه من ظاهرة "المقاتلين الأجانب" في صفوف "داعش"، والذين وصل عددهم، في بعض الأوقات، إلى حوالى ثلاثين ألف مقاتل، حسب بعض التقارير. وكذلك كانت هي الحال أيضاً في أثناء فترة الجهاد الأفغاني، حين كان عبد الله عزام مسؤولاً عن توريد المقاتلين العرب إلى أفغانستان، عبر "مكتب خدمات المجاهدين" في أفغانستان.
ما سبق أصبح كالمعلوم من الدين بالضرورة، لكنه لا ينفي أن ثمة أطروحات غربية جادة تتعاطى مع الظاهرة الإسلامية بشكل أكثر عمقاً وجدية، وبالقدر الذي تستحقه من الاهتمام. وهناك أسماء كبيرة أصبحت معروفة سواء في أوروبا أو في أميركا، تقوم بجهد بحثي متميز، ويقدمون أطروحاتٍ ذكيةً ومهمةً في فهم الحركات الإسلامية. وغالباً ما لا تروق أطروحات هؤلاء اليمين المتطرف الذي لا يفرق بين الدين والحركات التي تستخدمه إطاراً أيديولوجياً لتبرير سلوكها وجرائمها، ويرى أن المشكلة هي في الدين ذاته، على نحو ما نراه في أوروبا والولايات المتحدة.
ولعل من الأطروحات الجادة التي تناولت الظاهرة الجهادية وفكّكتها، خصوصاً في أوروبا، أطروحة الباحث الفرنسي والسوسيولوجي المعروف، أوليفيه روا، التي قدّمها عقب موجة التفجيرات التي ضربت فرنسا ومدناً أوروبية خلال العامين الأخيرين، وركز فيها على "أسلمة الراديكالية"، وليس "الإسلام الراديكالي" على نحو ما يفعل بعضهم. يجادل روا أن الظاهرة الجهادية في فرنسا محلية بحتة، مرتبطة بالظروف الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للشباب الفرنسي، خصوصاً المسلمين المهمشين، وأن انخراطهم في العنف لا يجب أن يتم تفسيره من خلال المتغير الديني فقط، بقدر ما يتعلق بالرغبة في التمرّد الكامنة لدى قطاعاتٍ من هذا الشباب الذي فقد الأمل في حياةٍ كريمةٍ ذات معنى وهوية.
وكانت أطروحة روا بمثابة نقلة نوعية في كيفية فهم (والتعاطي مع) ظاهرة العنف التي تزامنت مع ظهور تنظيم داعش وتوحشه. وقد حاول، من خلاله، وقف سيل الكتابات الغربية التي وقعت في فخ التفسيرات السطحية، المتعلقة بالدافع الديني الثاوي خلف التفجيرات التي قام بها الدواعش. كما أنه دفع باحثين آخرين إلى إعادة التفكير في تفسيراتهم بشأن المسألة، والخروج من التفسيرات المعلبة إلى تفسيرات جديدة أكثر عمقاً.
لذا، بدأ باحثون غربيون في إعادة النظر بالمسألة الجهادية من منظور مختلف. ومن بين هؤلاء البروفيسور ستاثيس كاليفس، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل العريقة، والذي نشر أخيراً دراسة جيدة وجديرة بالقراءة والتأمل بشأن ضرورة التعاطي مع الجهاديين، باعتبارهم متمرّدين في حروب أهلية، وليس مجرد فاعلين متطرفين دينياً. وقد نشرت دراسة كاليفس، قبل أيام، في المجلة العلمية المرموقة "دايدالوس" التي تصدرها الأكاديمية الأميركية للعلوم والآداب، وفيها أفكار جديرة بالتأمل والنظر. وتتمثل الأطروحة الرئيسية في الدراسة في أنه لا يمكن تفسير سلوك الجهاديين من خلال منظور الدين والإرهاب فحسب، وإنما يجب النظر إليهم باعتبارهم متمرّدين في حروب أهلية، كما يجب أن يتم فهمهم باعتبارهم أصحاب أيديولوجيا "ثورية"، وذلك من خلال تحليل سلوكهم وطريقة تعاطيهم مع الصراعات التي ينخرطون فيها. وقد وصل كالفيس إلى هذه النتيجة من خلال تحليل سلوك الجماعات الجهادية في سورية والعراق، ومقارنته بسلوك بعض الجماعات والتنظيمات الماركسية في أثناء مرحلة الحرب الباردة.
ويلفت كاليفس النظر إلى مسألة مهمة، تتعلق بالعلاقة الجدلية بين الجماعات المتمرّدة وطبيعة الدولة التي تتصارع معها، حيث يرى أنه في حالة قوة هذه الدولة، وضعف الجماعات التي
نقطة أخرى مهمة، تتعلق بالطابع العالمي للجماعات المتمرّدة، فمثلما كان للحركات الماركسية امتدادات خارجية تستعين بها، وتستجلب منها الدعمين، المادي والبشري، فإن هذه هي الحال مع الجماعات الجهادية، سواء كانت "القاعدة" أو "داعش" التي أصبحت لها فروع في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، وكذلك في دول غربية. وهو ما يمكن تلمسه من ظاهرة "المقاتلين الأجانب" في صفوف "داعش"، والذين وصل عددهم، في بعض الأوقات، إلى حوالى ثلاثين ألف مقاتل، حسب بعض التقارير. وكذلك كانت هي الحال أيضاً في أثناء فترة الجهاد الأفغاني، حين كان عبد الله عزام مسؤولاً عن توريد المقاتلين العرب إلى أفغانستان، عبر "مكتب خدمات المجاهدين" في أفغانستان.