"الاتحاد الاشتراكي" في المغرب.. حلم الديمقراطية المجهضة وموت بطيء

"الاتحاد الاشتراكي" في المغرب.. حلم الديمقراطية المجهضة وموت بطيء

14 سبتمبر 2014

مؤتمر عام لحزب الاتحاد الاشتراكي في مارس آذار/2001 (أ.ف.ب)

+ الخط -

يعدّ حزب الاتحاد الاشتراكي في المغرب (كان يسمى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، أحد الأحزاب التاريخية التي استلهمت روح الكفاح في فعلها السياسي، مستصحبة معها تاريخاً من مجابهة المستعمر والنضال من أجل الاستقلال. وقد خرج من رحم حزب الاستقلال، الذي يعتبر العمود الفقري للحركة الوطنية، وكان الانقسام نتيجة قراءات سياسية، وطريقة تدبير شؤون الحزب، ولهوية الخطاب السياسي، ومعه الفكري، في ما بعد، فكان تأسيس الاتحاد الاشتراكي شبيهاً بعملية تمرّد الشباب، المتشبّع بالقيم التقدمية والأنموذج الاشتراكي الصاعد، على الشيوخ والعلماء. ونستحضر هنا الزعيم علال الفاسي، الأب الروحي لحزب الاستقلال حينها.
العنوان البارز للتاريخ السياسي الحديث للمغرب، والذي لا يمكنك أن تمر عليه منقّباً وباحثاً بعين مستبصرة ومتأملة، من دون أن تتلمّس لحظات من الصراع المرير الذي خاضه هذا الحزب وأذرعه ضد الاستبداد والقوى التي يرتكز عليها، والتي سماها الدكتور محمد عابد الجابري، رحمه الله، "القوة الثالثة" في تشخيصه واقع تلك الحقبة المتشابكة والمعقدة، وكان النضال من أجل الحرية قد بلغ أوجه في مراحل معينة، حتى أصبح الحزب حركة اجتماعية ممتدة (هذا لا يجعلنا نغفل تأثير قوى أخرى وامتداداتها الضاربة في العمق الاجتماعي، مثل حزب الاستقلال) ومعبّراً حقيقياً عن مطالب شرائح اجتماعية كبيرة.
فوّت المغرب لحظات عزيزة عليه، كان يمكن خلالها أن يحقق انتقالاً ديمقراطياً يفكك معه النُظُم التقليدية للسلطة. ومن جهة أخرى، التقليص من أدوات الاستبداد والقمع القادم مع أجهزة الدولة الحديثة، كان يمكن أن يتم القضاء على هاته التمثّلات البشعة للسلطة، في تعاقد سياسي واجتماعي بين قوى الحركة الوطنية والقصر، وهي التيار المجتمعي العريض الذي أطلق عليه الجابري مفهوم "الكتلة التاريخية" وسماه طارق البشري "التيار الأساسي للأمة"، وهي الكتلة أو التيار الممثل في الأحزاب الكبرى والحركات الاجتماعية التي ترفع مطلب الدمقرطة والتحديث، وكان في صلبها الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وهيئات وطنية أخرى، في مقابل القصر الذي كان فاعلاً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه، وبذلك، كان المغرب سيوفر سواعد نُخَبه السياسية والثقافية للعمل والبناء، بدل الصراع المحكوم بنزعة إلغاء الآخر.
ضاعت تجارب كثيرة، أتيحت للمغرب، كان في وسعه أن يحقق معها انتقالاً ديمقراطياً آمناً يكون مدخلاً أساسياً لنهضة شاملة، لكن هاجس الصراع الذي حكم علاقات مختلف المكونات بعضها ببعض، بفعل سوابق تاريخية، جعل الثقة تكون منعدمةً، فتبخّر معها الحلم، ما يدفع كثيرين، الآن، إلى فتح ذلك الأرشيف السياسي، بحثاً عن أسباب وكوامن أعاقت التحوّل نحو الديمقراطية، وأفقدت المغرب فرصاً قلّما يجود بها الزمن.


البحث في الماضي السياسي للمغرب، يكشف الحقيقة من جهة، ويطلعنا على آليات اشتغال الاستبداد وطرقها، ومدى قدرته على تهجين المعارضات، وتحويلها إلى كائنات سياسية أليفة، تتعايش مع كل النماذج والممارسات السياسية، من جهة ثانية. بل والغريب تلك القدرة الخارقة لتحويلها إلى أداة من الأدوات، وإفراغها من مضمونها النضالي والقيمي، وفي ذلك محاولة للإجهاز على مرحلةٍ بكامل تجلياتها، والأسئلة التي طرحتها. وإلى جانب معرفة طرق وآليات اشتغال الاستبداد، يفيدنا الاطلاع على الماضي، في بناء الحاضر والمستقبل، فالاستيعاب شرط أساس للتجاوز كما يقال؛ وإذا أردنا أن نحقّب لمراحل الانتقال الديمقراطي التي امتنع المغرب عن الاندماج فيها:

1_ بعد الاستقلال إلى حين وأد حكومة عبد الله إبراهيم
 كان الشعور الوطني لا يزال في أوجه، وكل الشروط كانت متوفرة لبناء مغرب الديمقراطية والحرية والكرامة. لكن، للأسف، انحرفت القاطرة كلياً، وتم الانقلاب على كل منجزات النضال السياسي من أجل الاستقلال، وما صاحبه من تدفق لمعانٍ وطنية وقيم تندر الفترات التي يمسح بها، فتحول الإخوة الأشقاء (الملكية والحركة الوطنية) إلى أعداء وخصوم، وأصبح الأعداء أصدقاء (القصر والقوة الثالثة العميلة)، فضاع الحلم وتلكأ المغرب عن المسير، وتوقفت عجلة الديمقراطية وبناء مغرب العدالة في منتصف الطريق، إن لم نقل تبخر كل شيء، وهو كذلك، لأنه حقيقة الحركة الوطنية. لم تكن تطرح سؤال مغرب ما بعد الاستقلال، أو المغرب الذي نريد، وسياق المرحلة التي كانت محكومة بالنضال من أجل استقلال هش ومعاق، جعل الجميع ينخرط في هاته المعركة، وأجلت كل الأسئلة، فقدمت الحركة الوطنية الكثير، لكن عائدها في الإسهام في البناء السياسي والاجتماعي للمغرب كان قليلاً، وهو ما نجده بالعكس عند القصر، حيث قدم القليل، لكن العائد السياسي كان كبيراً، حيث ازداد التحكم في المشهد السياسي، وتجلى ذلك بوضوح في حكومة عبد الله إبراهيم التي جرى الإجهاز عليها.

2_بعد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي سنة 1975
أحدث ذلك المؤتمر نقلة نوعية في الخطاب السياسي للاتحاد الاشتراكي، فتم الانتقال من خيار راديكالي، نشأ في ظروف وسياق معيّن، إلى خيار إصلاحي، اقتضته ظروف وسياقات كذلك، كما عبّر عن ذلك التقرير الإيديولوجي الذي يعدّ أهم ورقة سيعرف معها الحزب ولادة ثانية، تجلى ذلك من حيث الشكل، في الاسم الذي تغيّر من "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" إلى حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، ومن حيث المضمون السياسي للحزب في ثلاثية: التحرير والديمقراطية والبناء الاشتراكي. وبالعودة إلى النقاش السياسي حينها، وما خلّفته الوثائق، نلمس أنه حدثت مراجعات سياسية عميقة، أدت، في النهاية، إلى هذا النموذج الذي كان في وسعه أن يشكل جسراً قوياً لبناء مغرب جديد قائمٍ على تعاقد سياسي، أجهض في الماضي بعد صدام سياسي عنيف، استمر نحو عقدين، وكان يمكن أن يمليه سياق اللحظة السياسية في المغرب مع التعبئة للمسيرة الخضراء التي اقتضت تحقيق شبه إجماع، وقد تجلت الانفراجة السياسية كذلك في رسائل الغزل بين النظام السياسي وحزب الاتحاد الاشتراكي حينها، لكن ذلك بقي مجرد نيات، وضاع الحلم مرة أخرى، وتبدّدت الأماني. 
 
3_التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمن اليوسفي
مرحلة توفرت لها كل الشروط التي يمكنها أن تنجح وتستمر، ويحقق معها المغرب الحلم الضائع في ثنايا الصراع، حلم الديمقراطية. ذلك كله لم يحصل للمرة الثالثة، وخرج عبد الرحمن اليوسفي، زعيم الاتحاد الاشتراكي، آنذاك، ليعبّر عن أسفه في محاضرته من بلجيكا، ويعلن أنهم مارسوا السلطة، ولم يمارسوا الحكم، وغادر حينها اليوسفي المشهد السياسي، ليبقى رفاقه أدوات في طاحونة المخزن التي تجدد ذاتها كل لحظة وحين، ولا تعرف التعب. كان بقاؤهم منافياً لمنطق الديمقراطية، حيث كان الوزير الأول ليس من حزبهم، على الرغم من أنهم تصدروا الانتخابات؛ لكنها إغراءات السلطة وشهوة المنصب تفعل فعلها في الإنسان العاشق الودود للتسيُّد والوجاهة.
كان ذلك الذي سبق مع رفاق اليوسفي، بمثابة إعلان اتحاد اشتراكي آخر، بمضمون وقيم جديدة، غير التي استنبتت إلى جانب الجماهير وفي الحركات الاحتجاجية ومن داخل الزنازين والمعتقلات، أو ما ينضح به الإطار النظري والمرجعي الذي يتبناه الاتحاد الاشتراكي. طفت على السطح قيم وسلوكيات في العمل السياسي، منافية للمبادئ والقيم التاريخية للحركة الوطنية، وإنما هي قيم نابعة من حب الكراسي المخملية  للمؤسسات والوزارات والمناصب السامية، وهي مناصب أصبحت غاية تطلب لذاتها، وليس مجرد وسيلة لتحقيق قيم نبيلة ولتغيير واقع البؤس، وبذلك، رأينا مناضلين كباراً يتساقطون ويسقطون ويتلذذون في سم السلطة الذي تجرّعوه طواعية في الدسم، فلم يمض وقت كثير حتى رأينا رموزاً  للاتحاد الاشتراكي وقيادات مناضلة، كانت ترفع مطالب العدالة الاجتماعية والدمقرطة، وتصرخ وتصول وتجول، تكشف سوءاتها في الإعلام، وتسقط تباعاً كما يسقط ورق التوت، ومن لم يسقط في ملف فساد يتابع فيه فهو راكم ثروة جعلت منه برجوازياً مقنّعاً تنكّر لكل المنطلقات والقيم، وذلك لم يتحدث عنه الإعلام وحسب، وإنما معظم الرموز تخرج، الآن، لتكتب عن إفلاسات تلك اللحظة، وعن الحلم الموؤود وعن أسبابه ومسبباته.


كل هاته القيم الجديدة التي استنبتت هي التي دفعت بالاتحاد الاشتراكي إلى ما نراه، الآن، على ما هو عليه، فمنذ تملّك منطق الانتفاع والاغتناء من السياسة والبحث عن الصدارة والوجاهة، بأي لغة ومنطق كان، فحينذاك، نعلم أن مؤشر الصعود توقف وبدأ الانهيار والتفكّك والتحلّل، ومقياس ذلك هي القيم المعبَّر عنها، والتي تعكس رؤى وفلسفات في التغيير. فالقيم إذا بليت يصعب تجديدها، فكيف حين تتم المساومة على تاريخ ونضال ومضمون في الكفاح السياسي. ذلك هو بمثابة إعلان الشيخوخة والتفكك، بعدما مرّ بمرحلة النضج والاكتمال؛ فاغتصب الاستبداد وتمثلاته الاتحاد الاشتراكي من جهة، فهو الذي استدرجه، وعرف كيف يطوّع أبناءه ويحولهم إلى أدوات طيّعة، واغتصب من أبنائه لما تنكروا للمبادئ، وساوموا على قيم فحققوا الاغتناء من ثلاث مراحل في التسيير الحكومي، وتسيير جماعات محلية وانتشار أخطبوطي في كل الإدارة المغربية؛ فكان الانتفاع قانوناً استفاد منه كثيرون، من أصغر عضو إلى أكبر قيادة، إلا مَن اعتزل أو لا يزال يقاوم، وهم قليلون، وما حصل أن مناضلين في الاتحاد الاشتراكي اغتنوا، فيما المغرب ازداد فقراً؛ وذلك كله إيذان بأن الشيخوخة التي تعني التحلل والنهاية الطبيعية أذنت وانبلجت، ولا يبقى سوى دفن هذا الجريح العليل.
وتلك النهاية السابقة تأكدت أخيراً في غير محطة، فالمؤتمر الأخير لحزب الاتحاد الاشتراكي تبيّن أنه متحكم فيه عن بعد، وتابع الجميع كيف أنه أصبح حزبين، وتيارين منشطرين بين واحد يقدم نفسه بأنه يريد أن يعيد الحزب إلى سابق عهده، وآخر استقدم وأتى على الأخضر واليابس في البيت الاتحادي، وتجلى ذلك حتى في المؤتمر الأخير للشبيبة، حيث تحول إلى حلبة صراع (اللكم والهراوات) وفضاء مواجهة يحكمه منطق آخر غير منطق السياسة النبيلة، أو الديمقراطية التي نبتغيها، ويتغنى بها الكثيرون؛ وهذا أصبح سارياً في كل الحقل السياسي وغير متعلق بالاتحاد الاشتراكي وحسب، فقد رأينا حزب الاستقلال مضى على النهج نفسه، فتحولت السياسة عندنا إلى بلطجة، ووقع انحطاط لا مثيل له في التاريخ السياسي للمغرب، وهو انحطاط تجري رعايته واستنباته لغايات تتجلى بعد حين، ولعل أهمها تنفير الناس من السياسة والوعي السياسي، وهي معركة تبدأ أولاً بضرب المشهد الحزبي والسياسي وإفقاده المصداقية، ليصبح العبث ومنطق القوة السائد وليس الوعي والقيم والمبادئ.
وإلى جانب تسلل قيم الانتفاع السريع، وكل المسلكيات غير المشروعة التي تعصف بمصداقية الأحزاب والجماعات، نجد أن حزب الاتحاد الاشتراكي ومعظم اليسار الذي يعاني موتاً سريرياً في المجتمع المغربي، يخلق معارك هامشية بعيدة، لا تخدم الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي في شيء، ولا يعود أثرها على مختلف الشرائح الاجتماعية، بل هي معارك تناقض الاختيارات القيمية والهوياتية لأغلب المجتمع، فتجد الحزب يغفل عن معركة الديمقراطية في نقاشه السياسي، ويتوجه إلى إثارة النقاش عن المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة وتعدد الزوجات وغيرها من النقاشات التي يطلع بها فاعلون دينيون ونخب المجتمع المدني؛ ولذلك، عوض أن يتوجه اليسار للإسهام في تفكيك بنى الاستبداد، تجده يوفر له الفضاء، ليستمد شرعيته ويخوض في معارك بعيدة عنه، وفي ذلك انحراف في الوجهة السياسية تدل على أن جزءاً كبيراً من طيفنا السياسي يعاني حالة شرود وتيه، إلى درجة لم تعد تعرف كيف يرتب أولوياته وما هو المطلوب منه.