تايوان... مثال للاقتصاد العائلي

10 اغسطس 2015
أصبحت تايوان قوة اقتصادية يعتدّ بها (Getty)
+ الخط -
في أواخر أربعينيات القرن الماضي، عانت تايوان من التضخم الجامح عندما قام النظام العسكري الصيني، "الكومينتانغ"، بطبع كميات كبيرة من اليوان الصيني، عملة تايوان الجديدة عوضاً عن الين الياباني، ما أظهر بوضوح حاجة البلد لعملة جديدة مستقرة.

قامت حكومة "الكومينتانغ"، بعد هزيمتها في الحرب الأهلية الصينية، بجلب جزء من المعدن النفيس واحتياطي من العملات الأجنبية من الصين إلى جزيرة تايوان، ما أسهم في خلق عملة مدعومة باحتياطي كبير من الذهب في تايوان، وفي استقرار الأسعار، والحد من التضخم الجامح. بالإضافة إلى ذلك، ساعد انتقال العديد من النخب الفكرية والتجارية الصينية إلى الجزيرة في سن قانون الإصلاح الزراعي المستوحى من القانون الذي سنّه الأميركيّون خلال احتلالهم لليابان، فعمل على إزاحة الطبقة المالكة المتسلّطة وأفسح المجال لعدد كبير من الفلاحين الذين أسهموا في زيادة الإنتاج الزراعي بشكل دراماتيكي، وإنشاء رؤوس أموال جديدة.

اقرأ أيضا: "هونغ كونغ" المركز المالي الأقوى

ومع حُسن استغلالها للمساعدات الأميركية الاقتصادية، تمكنت تايوان من إقامة بنية تحتية صناعية ضخمة، وشبكة اتصالات حديثة، ونظام تعليمي متطور. علاوة على ذلك، أظهرت الخطط الاقتصادية، التي جاءت نتيجة عمل تراكمي أطلقتها العديد من الهيئات الحكومية في فترات سابقة، نجاحاً باهراً، فنما الاقتصاد التايواني.

وبلغ إجمالي صادرات تايوان، كنسبة من الصادرات العالمية، أكثر من 2% في عام 1987، أي أكثر من غيرها من البلدان الصناعية الأخرى مثل كوريا الجنوبية، ونما الناتج القومي الإجمالي، كذلك، بنسبة 350% بين عامي 1964 و1984. أما الفجوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء فقد تقلّصت بشكل ملحوظ، حيث يُظهر مؤشر جيني للعدالة الاجتماعية، في هذا الصدد، تحسن تايوان في سلّم المؤشر، متراجعة من 0.56 في عام 1950 إلى 0.30 في عام 1980، وهو مؤشر يعتبر أفضل من بعض بلدان أوروبا الغربية.

وفي عام 1959، أسهم برنامج للإصلاح الاقتصادي مؤلف من 19 بنداً، في تحرير السوق، وتحفيز الصادرات، وتصميم استراتيجية لجذب الشركات الأجنبية ورؤوس أموالها. وفي عام 1964، تم إنشاء منطقة تجهيز الصادرات في "كاوشيونغ"، حيث برزت شركة "جنرال إنسترومينتس" كرائدة في تجسيد تجميع الإلكترونيات في تايوان بغية تصدير منتجاتها إلى الأسواق العالمية. نتيجة لذلك، انتقلت العديد من الشركات اليابانية إلى تايوان مستفيدة من دعم الدولة، وتدني الرواتب، ووجود قوى عاملة متعلّمة. برغم ذلك، بقيت نواة البنية الصناعية لتايوان وطنية إلى حد كبير، حيث تألفت من عدد كبير من الجمعيات العائلية الصغيرة والمتوسطة الحجم التي حصلت على دعم حكومي على شكل إعانات وقروض.

اقرأ أيضا: لاتفيا: تطرف المؤشرات

ظهرت معظم هذه الجمعيات، لأول مرة، في المناطق الريفية القريبة من المناطق الحضرية، حيث تشاركت الأسر في العمل في الورش الصناعية التي تمتلكها، ما مكّن أصحاب هذه المشاريع في منطقة "تشانجوا"، في عام 1988، من إنتاج ما يقرب من نصف عدد المظلات في العالم. بالإضافة إلى ذلك، أسهمت سياسة الدولة، المتمثلة في جذب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية وتسهيل الوصول إلى الأسواق العالمية، في إبرام شركات أجنبية كبرى عقوداً تجارية مع شبكة ضخمة من الشركات الوطنية صغيرة الحجم التي أصبحت تشكل نسبة هامة من الإنتاج الصناعي للدولة.

في الواقع، تمكنت المنتجات التايوانية من الوصول إلى الأسواق العالمية بمساعدة من الشركات اليابانية والمستوردين الأميركيين الذين بحثوا عن إقامة علاقة مباشرة مع أصحاب العلامات التجارية التايوانية. وبرغم ذلك، لم يتم إنشاء أي من الشركات متعددة الجنسية الكبرى (كما هو الحال في سنغافورة)، أو تكتلات ضخمة من الشركات الوطنية (مثل تكتل شركات كوريا الجنوبية)، لكن بعض المجموعات الصناعية، التي أُنشئت في تسعينيات القرن الماضي، نمت لتصبح شركات دولية ضخمة بدعم حكومي راسخ.

اقرأ أيضا: بلجيكا: درس في التكيُّف الاقتصادي

وتحقّق الجزء الأكبر من التنمية الاقتصادية في تايوان بفضل المرونة الكبيرة التي أظهرتها الشركات العائلية بتعاملها مع التجار الأجانب، ما أدى إلى إنشاء شبكات من التجارة الدولية بمساعدة وسطاء. اليوم، أصبحت تايوان قوة اقتصادية يعتدّ بها، مع اقتصاد ناضج ومتنوّع، واحتياطات ضخمة من النقد الأجنبي، ووجود قوي في الأسواق الدولية، حيث أصبحت شركاتها قادرة على تدويل إنتاجها، والاستثمار بكثافة في آسيا وفي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
(خبير اقتصادي أردني)
المساهمون