مدّ وجزر

09 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الصيني شن لين كسين (Getty)
+ الخط -
منذ شهور خلت، تم الكشف عن وثائق رسمية تعود إلى عام 1965، متعلقة بظروف مقتل الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا في شهر أغسطس/ آب 1936، بعد شهر من اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. وثائق من أهمها، التقرير الصادر عن مركز شرطة غرناطة، وقد أعدّ بعد ما تقدّمت الكاتبة الفرنسية مارسيل أوكلير، وكانت صديقة للوركا، بطلب إلى السفارة الإسبانية في باريس لإعطائها إذنًا بالاطلاع على كافة الوثائق التي يمتلكها النظام (نظام فرانكو) عن الشاعر، إذ كانت وقتها تعدّ كتابًا سيريًا عنه، (صدر عام 1968 بعنوان "بدايات لوركا وموته"). لم تطلع الكاتبة على التقرير الرسمي، بل إنها لم تتلقَ أي ردّ من السفارة، وأنجزت كتابها بمعزل عن "الوثائق" التي كشفت لاحقًا، بطريقة لا لبس فيها، تورط نظام فرانكو الفاشي في قتل الشاعر الموهوب. 
ومن خلال النبش في القصّة مؤخرًا، ظهر كلام منسوب للديكتاتور فرانكو، الذي كان يرى في الاتهامات الموجهة لنظامه بمقتل لوركا، نوعًا من البروباغاندا. قال الديكتاتور: "لقد مات الشاعر بسبب معاشرته للثوار. وموته أمر طبيعي إبان الحرب". ورأى يان جيبسون، كاتب سيرة لوركا أيضًا، أن هذه الوثائق مهمة نظرًا إلى أنها صدرت إبّان حكم فرانكو، وتتعارض في الوقت نفسه مع الرواية الرسمية التي صوّرت موت لوركا كما لو كان حادثًا مؤسفًا، بسبب ظروف الحرب الأهلية، بينما يبدو من خلال وثائق السلطة أنه كان ثمة قرار واضح منها بتصفيته. ومما لا ريب فيه أن السؤال عن ملابسات مقتل لوركا ما كان ممكنًا أثناء حكم فرانكو، الذي يقال إن الأمر كان يثير حساسية شديدة لديه. فرانكو الذي كان متشبثًا بفاشيته، ولم يجد أفضل من هتلر وموسوليني مرآة لها، تسانده في الحرب الأهلية الإسبانية التي دامت لثلاث سنوات وخلّفت نصف مليون قتيل.

اقرأ أيضًا: نور القدس

لم يكن فرانكو كارهًا للشاعر لوركا فحسب، بل كان أيضًا كارهًا للغة الكتالانية، فمنع تعليمها، ومنع الناس أيضًا من التحدّث بها. كما أخضع الكتب القليلة الصادرة بها، لرقابة مشددة، أفضت مع مرور الوقت إلى انحسارها. لكن اللغة الكتلانية استمرّت وعبر الأدب تحديدًا، هذا ما ستخبره ضيفة ملحق الثقافة لهذا العدد الكاتبة والروائية ماريا باربال. إذ إن الأدب يتسع ويضيق، ويصيبه مدّ ثم جزر، لكنه يظلّ ويبقى، متقنًا التسرّب من الشقوق، كما الاندفاع من النوافذ والأبواب.

ولا يبدو القول بأثر العولمة في "منح" شرعية للأدب الكتالاني أو غيره من آداب اللغات "المضطهدة" أو القليلة الانتشار، مجانبًا للصواب. فقد سمحت العولمة عبر خلخلة الحدود بأنواعها كافّة، للغات "المحلية"، كما للأمور المحلية الأخرى، أن تحجز لنفسها حيزًا ولو ضئيلًا على الخارطة الكبرى التي تهيمن عليها لغات القوى الكبرى، مثل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية.

ومقابل هذا "الأمر" الإيجابي، في إعطاء الهامشي والمضطهد حقّ التمثيل، انحسرت أمورٌ أخرى، واندثرت "عادات" ومذاهب إنسانية. فالعولمة تترافق اليوم مع نبذ الشعر والفكر والفلسفة، خصوصًا، حين يكون هذا "الثالوث" لو جاز التعبير، بعيدًا من السياسية، التي غدت بدورها الحصان الرابح والأكثر جذبًا للاستثمار في عالم اليوم المعولم.

اقرأ أيضًا: زمن الموسوعة وزمن توت عنخ آمون

وليس أصحاب الرأي السياسي أو المحللين والمعلقين السياسيين، الكثر والمتكاثرين كما لا يخفى، هم وحدهم الأكثر حضورًا اليوم في وسائل الإعلام، ثمة شيء جديد يتسرّب إلى المشهد المعولم ويكاد يطغى؛ إذ إن كل فرد قادر على "تسييس" أي أمر، ودفعه باتجاه توليد معاني مثيرة للكراهية والتطرّف، حاثّة على العنف والقتل، سيجد لنفسه مكانًا فسيحًا وحيزًا واسعًا في عالم اليوم. لكأن ترويج الحقد والطائفية والتبشير بالخراب، أصبحت أمورًا مطلوبةً لذاتها. إذ من شأن خطابات مماثلة أن تكون "مثيرة" لاهتمام الجمهور. كذا يزداد عدد المقالات المنطلقة من الشرّ والكراهية، المتذرعة بضرورة "النقد"، كي تبرّر استراتيجيتها في الميل دومًا صوب "تسييس" الأمور، وإضفاء معان "طائفية"،( أو "دينية" أو "عرقية" أو "عنصرية")، فهما أمران يضمنان على ما يبدو ويظهر، الظهور والتواتر في وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا هو الهدف "الأسمى" لكتابات وخطابات مماثلة.

ولعلّ في هذا، ما يفسّر انكفاء الشعر مثلًا عن شغل حيّز ولو ضئيل. لكن من حيث لا تدري السياسة، فإنها وبطريقة ما تسدي خدمة للأدب، كذا فإن الوثائق "السياسية" التي وجدت أخيرًا، حول ملابسات مقتل لوركا، جددت الاهتمام بما مثّله هذا الشاعر من معنى نبل الوقوف مع الضعفاء والأقلّ حظًا، فهو بالطبع لم يغب، لكنه كالنهر ينوس بين مدّ وجزر دائمين. وحياته تشبه شعره لناحية الصدق والبذل والسمو. أمّا شعره فليس "مسيسًا" بالمعنى المبتذل المعولم، بل بمعنى الالتزام الحقيقي: "من خلالِ غصونِ الغار/ رأيت حمامتين داكنتين/ الأولى .. الشمس/ والأخرى .. القمر/ قلت لهما: يا جارتاي/ أين هو قبري؟".
دلالات
المساهمون