أطفال الياسمين في شوارع بورقيبة

14 فبراير 2014
+ الخط -

طفل صغير يتجول بين الجالسين في مقاهي شارع الحبيب بورقيبة في الصباح، بينما هم يشربون قهوة الصباح أو يطالعون الجريدة. يقاطع الطفل واسمه "أيمن" الجلوس بصوت منخفض يكاد لا يسمع، صوت متوسّل، لشراء الياسمين أو الورد بنغمة استعطاف أقرب منها إلى البيع. حين يرفع الجالس عينيه إلى الطفل قد يتصفح في ملامحه قصة فقير ضاعت طفولته، مثلما يضيع النور في عين الضرير. وربما يقرأ تلك الخطوط الصغيرة وندبات وجهه التي تحكي مأساة أطفال مثله في مقتبل العمر.

أيمن أحد هؤلاء الأطفال، الذين يبيعون الفل والياسمين ينتقلون بقاماتهم النّحيفة وثيابهم الرثّة بين طاولات الزبائن، كل منهم يحمل يقطينة ثبتت عليها "مشاميم" الياسمين. يتغنون شتى عبارات الاستعطاف والتوسل لدفع الزبائن للشراء.

يحدثنا أيمن، وهو يخفي إحدى يديه في جيبه ليجد الدفء سبيلا إلى أنامله المرتعشة: "أنا أعمل غالبا خلال العطلة الصيفية منذ ما يقارب السنوات الثلاث. أبي يصنع الياسمين وأنا أبيعه كل صباح، وخلال الدراسة أعمل في أثناء أوقات الفراغ". يصمت قليلا ويجول بنظرة صغيرة إلى أزهار الياسمين يختار واحدة، يضعها فوق الطاولة ويواصل الحديث، "رغم تعبي من المشي ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، أو في لفح برد الشتاء إلا أنّني مضطر للعمل. يسكت مرة أخرى ثم يرفع عينيه سائلا: "هل ستشتري أم لا؟" ويذهب بعدها إلى زبون آخر.

يتجاهله أحد الجلوس، ويرفضه آخر وينتظر ثالث حتى يرفع نظره عن الصحيفة التي يقرأها، الطفل لا ييأس ولا يتراجع بل يمضي لتتواصل رحلة البحث عن لقمة العيش. يعود مجددا إلينا لعله نسي أشياء لم يقلها عن معاناته، أو ربما كان يأمل منا أن نشتري بعضا من أزهاره.

يمثل عدد الأطفال في تونس وفق وزارة المرأة وشؤون الأسرة نحو 24 % من مجموع السكان، أي ثلاثة ملايين و400 ألف طفل تقريبا ممن لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة. اوضاعهم تحسنت كثيرا بسبب الثورة، لكن الارقام ايضا تقول إن: هناك نسبة كبيرة لا تزال مجبرة على العمل بسبب الفقر تصل الى 3 في المائة من عدد الأطفال في تونس.

وقالت عائدة غربال، المندوبة العامة للطفولة بوزارة المرأة وشؤون الأسرة: إن تونس تعرض الى انتقادات عدة فيما يخصّ حماية الطفولة.

وبينما لا توجد إحصائيات رسمية بعدد الأطفال المشردين في تونس، إلا أن غربال أكدت لـ"الجديد" أنّ فرق العمل المشتركة التّابعة لوزارات الدّاخلية والشؤون الاجتماعية وشؤون المرأة والأسرة نجحت في خلال الفترة الأخيرة في انتشال بعض الأطفال من الشارع، وتبيّن بعد دراسة أوضاعهم أنّ غالبيتهم منقطعون عن التعليم ويتحدرون من عائلات تعيش حالة تفكك أسري، أو يعيشون في ظروف اجتماعية صعبة كالفقر والخصاصة، وأنّ الوزارة تعمل حاليا على إعداد مشروع هيكل مستقل يهتم بحماية حقوق الطفل من أجل تفعيلها، وتطبيق ما ورد في الاتفاقيات المتعلقة بها، فضلا عن رصد الانتهاكات في حق الطفل.

وتتم ،في فترات مختلفة، حملات عدة لانتشال هؤلاء الأطفال من الشوارع، لتحديد الأسباب الحقيقية وراء تفشي ظاهرة أطفال الشوارع، وخصوصيات هذه الفئات من أجل تحديد طرق التدخل لفائدتها.

وتختلف تعاسات حياة كل طفل، فتسلب طفولته وتدفعه إلى العمل. حين تراهم يتبادر إلى ذهنك أنّ حقهم الأساس هو الترفيه لا العمل، ولكن هذه هي حقيقة الظروف، فتشغيل الأطفال ظاهرة لا تخفى في مجتمعاتنا.

والصورة في شارع بورقيبة تلخص الحكاية، حيث تشير إلى أحد هؤلاء بيدك يأتيك مسرعا، يسألك: ماذا تريد وردة أم "مشموم"؟ تعده بأن تشتري منه في حال تحدّث عن نفسه، يومئ بالموافقة، ثم يتحدث عن حياته في العمل "أنتقل يوميا من المروج إلى العاصمة أحمل معي الفل والياسمين لبيعه، قد يرى بعض أنّ العمل في غاية من السهولة ولا يتطلب جهدا، لكن الحال عكس ذلك لأنني أقضي يوما كاملا أتنقل بين المقاهي، وأحيانا تمضي الساعات الأولى ويمر النصف الأول من اليوم ولا أبيع حتى زهرة واحدة، فيراودني اليأس والخوف من أبي، هكذا قال أحمد أحد أطفال الياسمين في شارع الحبيب بورقيبة.

أحمد يشبه غيره من الأطفال في المظهر والشكل وحتى الصوت، حين تسأله بعض الأسئلة يستغرب ولكن يجيبك حتى يدفعك إلى الشراء. "أنا وعائلتي نجمع الأزهار في الصباح الباكر أو في اللّيل من منازل مجاورة، وحتى بعيدة عنا بعد أن نتفق مع أصحاب تلك المنازل ليمنحونا الأزهار مجانا". يقدم لك إحدى الأزهار قائلا: "بدينار فقط". ثم يواصل حديثه "أمي تصنع هذه المشاميم وأنا أبيعها مع اخوتي في المقاهي كل يوم لنجمع بعض مصاريف الدراسة". تدفع له المال فما يلبث أن يلتقطها منك حتى يركض إلى زبون آخر.

كل باحث عن الإحصائيات الرسمية المتعلقة بأطفال الشوارع لا يجد ضالته في دفاتر المعهد الوطني للإحصاء ولا في ملفات وزارة المرأة وشؤون الأسرة. ولكن لا يعني غياب الأرقام الرسمية أنّ هذه الفئة غير موجودة في مجتمعنا.

ونبّه طلال المسعدي، رئيس جمعية "هداية لحماية أطفال الشوارع" إلى المآسي والأضرار التي يعيشها هؤلاء الأطفال يوميا، مؤكدا: أنّ أطفال الشوارع ليست ظاهرة جديدة على تونس، ولكنها ازدادت حدة وتضاعفت عددا بعد الثورة نتيجة ارتفاع نسبة الفقر وغلاء المعيشة. مشيرا إلى أنّ التطرق إلى هذه الفئة قبل الثورة كان من الممنوعات، ومن أهم الظواهر المسكوت عنها، بحيث لا يمكن استعمال لفظ أطفال الشوارع. أما الان فقد صار الكلام عنهم مسموحا، ما يبشر بحل مشكلاتهم.

وأوضحت نتائج تقريرمنظمة يونيسيف بالتعاون مع المعهد الوطني للإحصاء ووزارة التنمية السنة الماضية أن 3 بالمائة من الأطفال في تونس يجبرون منهم على العمل، بينما يقول الخبير في علم الاجتماع، الدكتور طارق بلحاج لـ"الجديد": إن أطفال الشوارع ظاهرة متفشية في مجتمعنا منذ سنين، لكن زادت بعد الثورة بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية. مشيرا إلى أنّه من الصعب تحديد هذه الفئة،لا سيما فيما يتعلق بالفئة المرتبطة بالعائلة، حيث إنّ عددا منهم يعملون لحساب أسرهم وتحت إشراف الوالدين، خصوصا المتحدرين من عائلات معوزة، إما من أجل التخلص من عبئهم أو من أجل دفعهم للعمل و"تحسين دخل" الأسرة.

المساهمون