أحصنة المال... عرب فرنسا عالقون في الرهانات

13 مايو 2018
يستعد لبدء اللعب (ليونيل بونافنتور/ فرانس برس)
+ الخط -

تعدّ الرهانات الأمل الوحيد بالنسبة لبعض العرب والأفارقة في فرنسا، للحصول على المال وقلب حياتهم رأساً على عقب. وعلى الرغم من الخيبات الكثيرة، إلا أن البعض يرفض التوقّف طالما أنّ الأمل موجود.

ما زال أحمد، وهو من أصول مغربية، يراهن على الفوز. كان قد بدأ الرهان على سباق الخيول قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً. يتنقل من مقهى إلى آخر علّه يحظى بالبركة ويبتسم له الحظ. يشتري الجريدة المتخصصة في سباق الخيول، ويقرأ كل تفاصيلها. لم يفقد الأمل. ربّما يأتي اليوم الذي يفوز فيه، وتتحسن حياته التي أفسدها الدهر. بنى أحلاماً كثيرة منذ بدأ الرهان. وها هو ينتظر أن يربح علّه يحقّقها.

كان قد غادر المغرب تاركاً زوجته وهي حامل، من دون أن يعود أبداً. يتقاضى راتبه الشهري ويدفع بدل إيجار الغرفة وفاتورة الكهرباء، ثم يتجه إلى المقهى ليجرب حظه. يقول زميله عبد الرحيم في مركز إيواء العمال المهاجرين إنه "نادراً ما يرسل معي أية مبالغ، ولو صغيرة، إلى أهله، حين أسافر في الصيف إلى المغرب".

كم كانت دهشة أحمد كبيرة حين طرق بابه يوماً شاب في مقتبل العمر، وقدم إليه نفسه قائلاً: "أنا ابنك". لم يكن قد رأى إبنه من قبل وجهاً لوجه، إلا في بعض الصور التي أرسلتها إليه عائلته مع رفاقه. إضافة إلى أحمد، لا يجد مغاربة كثيرون، خصوصاً أصحاب التكوين الدراسي المحدود، ما يفعلونه بعد الانتهاء من العمل. لذلك، يتجهون إلى هذا العالم، لعلّ ضربة حظ تبدّل حياتهم رأساً على عقب، فيتوقفون عن هذه الأعمال المنهكة.

في معظم المقاهي التي تسمح بتنظيم هذه السباقات، تحت مسمى "الرهان التعاضدي الحضري"، تجد عرباً وأفارقة وآسيويين، تتراوح رواتبهم ما بين 1200 و2000 يورو شهرياً. هؤلاء يقرأون الصحف المتخصصة في السباق، ويملأون الخانات، ثم يتوجهون إلى آلات للتصديق على الأرقام ودفع ثمنها. بعدها، يمعنون النظر في شاشة التلفزيون بانتظار نتائج السباق، مع صيحات الاستهجان وعدم الرضا في معظم الأحيان.



وحين نتحدث إلى هؤلاء اللاعبين المقامرين، نجد عندهم قصصاً يريدون سردها لمن يستمع، كأنهم يبحثون عن تعاطف معهم، على الرغم من الآثار السلبية لهذه اللعبة عليهم وعلى عائلاتهم.

مصطفى، وهو جزائري، يعترف أنه يرتاد هذه الأماكن من حين إلى آخر. يؤكّد أنّه سجّل كل الأرقام الفائزة في إحدى المرات، لكنه نسي الأوراق في جيبه ولم يدفع ثمن الرهان. يقول: "حزنت كثيراً بسبب هذا الإهمال، وقلت إنني لن أفوز أبداً، فالحظّ لا يأتي مرتين". لكنه يستدرك: "لا أتمالك نفسي حين أرى آخرين، ومنهم أصدقاء لي، يراهنون".

عبد السلام، وهو تونسي سبعيني، يؤكد كلامه. يرفع عينيه عن جريدته، ويتحدث إلينا عن المرات الكثيرة التي راهن فيها من خلال سحب أوراق "اللوتو"، قبل أن يضيع الأوراق. ويقول بلغة جازمة: "أعرف أنني كنتُ رابحاً، لكن القدر شاء أمراً آخر".

وعلى الرغم من الخسارات والخيبات، يستمرّ البعض في الرهان على أمل أن تتحقق أحلامهم يوماً ما. أما آخرون، قضوا سنواتهم وهم يجربون حظهم في شتى أنواع الرهانات وأوراق اليانصيب، فقد اختاروا الاستسلام، منهم جواد المولود في فرنسا. يقول إنّه توقّف بعدما أدرك أنه لن يفوز أبداً. ويحكي أن صديقه نصير العراقي، اقتنع بوقف المراهنة حين شدّد إمام الجمعة على تحريم الميسر وكل الرهانات نتيجة المآسي التي تسببها، والتي لا يريد أن يتحدث عنها أصحابها. "كانت كلمات الإمام عميقة، وأدركت فعلاً أنني خسرت مبالغ باهظة، وأن أسرتي دفعت الثمن غالياً". يضيف: "كنت قادراً على إلحاق بناتي في أفضل المدارس، لكنني لم أفعل".




أما إبراهيم، الذي يقيم في فرنسا منذ أكثر من 30 عاماً، فيقول إنه لاجئ من غزة، وتعتبره فرنسا من عديمي الجنسية. وما إن يتقاضى راتباً من عمل ما، حتى يسرع في تبذيره على المراهنات. يتذكر بعض أبيات الشعر وهو ينفث سيجارته بعصبية ظاهرة، ثمّ يقدّم بعض النصائح للفوز باللوتو. "أنصحكم باللوتو الرياضي كونه أسهل للفوز. يكفي أن تعرف مستوى الفرق الرياضية، والفريق الضيف والمضيف، ثم تملأ الخانات". وحين نسأله إن كان يلتزم بهذه النصائح، يجيب: "في إحدى المرات، فزت بـ 50 ألف فرنك فرنسي". وحين نقول له إن هذا المبلغ أقل من 8000 يورو، يتحدث عن زمن غابر ولا يجد ما يضيفه. ثم يختم حديثه قائلاً: "نفسي تحدثني عن فوز مقبل".

غير بعيد عنه، مجموعة أخرى تتحدث اللهجة المغربية، وتتباحث في موضوع الخيول المرشحة للفوز في السباق الذي سيبدأ بعد قليل. ويشير رجل فلسطيني الأصل ومن عديمي الجنسية، إلى شخص يبدو جدياً ومستغرقاً في ملء خانات المسابقة. ويقول: "من كثرة إسراف سعيد في اللعب، لم يكن ينفق كما يجب على بيته، فتركته زوجته وأبناؤه".

ويرتاد الأفارقة هذه المقاهي بكثرة، خصوصاً المتحدرين من دول الساحل والصحراء، وغالبيتهم مسلمون. ليس غريباً أن تجد إماماً أو عالماً يقدم لك نصائح دينية، ثم يستخرج من محفظته جريدة الألعاب، ويحاورك عن الفرس رقم كذا وكذا، والذي يمكن أن يفوز في السباق.

نسأل عيساتو السنغالي، والمواظب على الرهان على الخيول، والذي غالباً ما يستعيد في ذاكرته الأرقام التي تكهنت بها الجريدة وخبراؤها، عن سبب تبذير أمواله في أمور يحرّمها الدين الإسلامي. وإن كان يعترف أنّ الرهان حرام، يقول: "من يستطيع مقاومة إغواء الفوز السريع بأموال كثيرة"؟



لكنّ الفوز السريع لا يحدث للجميع. هذا ما يعترف به كثيرون، من بينهم عيساتو، الذي يقول: "لهذا السبب ما زلت أراهن. كما يندر أن يحدثوك عن شخص فاز بمبلغ كبير ثم توقف عن اللعب".

وليس اللعب حكراً على إثنية أو فئات عمرية معينة. يضيف أن الشركة الفرنسية المكلفة بكل أنواع القمار والرهان واليانصيب، والتي تمتلك الدولة الفرنسية 72 في المائة من حصصها، موجهة لكل الأعمار "كلٌّ بحسب مستواه وطاقته وجيبه"، يقول أحمدو وهو من باماكو، ويطلق عليه أصحابه لقب "تندرا" أي الخبير. مع ذلك، يوضح صديقه محمدو إنه ما زال عاجزاً عن الزواج. هذه الشركة الفرنسية للقمار تخاطب الشباب من خلال ألعاب الحظ الرقمية. أما أولئك الذين يملكون أموالاً كثيرة، فما عليهم سوى التوجه إلى الكازينوهات.

وإذا كانت الدولة الفرنسيّة تحقّق أرباحاً كبيرة من خلال إقبال الفرنسيين على المقامرة والرهان، ما يعزز ميزانيتها (4,7 مليارات في عام 2016)، إلا أنه لا يمكنها غض الطرف عن إدمان القمار الذي يُولد مآسي شخصية ونفسية واجتماعية يعيشها أولئك الذين علقوا في هذا العالم. لذلك، تضع رقم هاتف هو "0974751313"، إضافة إلى موقع إلكتروني (www.joueurs-info-service.fr) متخصص بمساعدة المدمنين على التخلص من هذا الأمر. ويؤكّد الموقع على ضرورة أنّ يشعر المرء بأنه مدمن، وأنه لا يستغني عن الدعم الذي يمكن أن يجده في محيطه العائلي، وأن يكون على يقين من أن الخبراء والمتخصصين من أطباء نفسيين وغيرهم ليسوا هنا لإصدار حكم معين، بل للمساعدة واقتراح حلول تتأقلم مع وضعية كل شخص على حدة.




وحين سألنا بعض الذين التقيناهم، والذين يراهنون منذ زمن طويل ولم يفوزوا، إن كانوا يفكرون في الاتصال بهذا الرقم الهاتفي من أجل طلب المساعدة، لم يعترف أحد منهم بأنه مدمنٌ، من بينهم أحمدو وإبراهيم وغيرهما. هؤلاء يؤكدون أنهم سيتوقفون حين يشاؤون. وحين نقول لهم إنها لعبة حظ، والحظ لا يخبر أحداً، بل إنه قد يكون سيئاً، على غرار حال زميل لهم يعرفونه جيداً مات ولم يجد من يرسل جثمانه إلى وطنه، فدفن في مقبرة فرنسية من دون أن يزوره أحدٌ، يخفضون رؤوسهم، ولا ينجيهم من ثقل اللحظة إلا عودة سباق الخيول إلى الشاشة. حينها، يركز المقامرون على أوراقهم، ويود أي واحد منهم لو تُسخَّر له الريح لدفع أحصنة الرهان إلى المقدمة.
دلالات