العبابدة والبشاريّة أبناء جنّ مهمّشون

22 مارس 2017
أجيال من المهمّشين (العربي الجديد)
+ الخط -

"العبابدة" و"البشاريّة" قبائل بدويّة تعيش في المنطقة الواقعة بين النيل والبحر الأحمر، على مقربة من أسوان في مصر ومن شمال السودان. وهي من المجموعات الفرعية لشعب البجا الذي يتحدّث باللغتَين العربية والبجاوية.

يتمدد قوم العبابدة من نيل أسوان حتى البحر الأحمر، ليصلوا شمالاً إلى الطريق الرابط بين محافظة قنا ومدينة القصير، ويحتلون الحدود الجنوبية لمصر شرق النيل بالكامل تقريباً. يطلق هؤلاء على أنفسهم "أبناء الجن"، وهذا الاسم تحديداً جعل الرومان ينسجون قصصهم في أساطيرهم القديمة، التي ظهرت في أفلام مثل "صدام الجبابرة". فقد تخيّلوهم بأحجام ضخمة ووجوه مشوّهة، يمتطون حيوانات أسطورية هائلة. أمّا قوم البشاريّة فهم من عشائر العبابدة، ويتمركزون جغرافياً في المواقع المشار إليها في وثائق العصر الروماني الخاصة بالمنطقة.

كان العبابدة وعشائرهم في حالة حرب مستمرّة مع الرومان الذين هزموهم في نهاية المطاف. وفي العصور الوسطى كان يُطلق على العبابدة اسم البجا، وكانوا يعملون مرشدين على طرقات الصحراء التي يعرفون دروبها وخباياها تمام المعرفة. وقد رافقوا قوافل الحجيج من وادي النيل إلى ميناء عيذاب على ساحل البحر الأحمر، عند مثلث حلايب. وكانت تلك أهم ميناء مزدهرة للتجارة ما بين وادي النيل وموانئ اليمن والهند والبحر الأبيض المتوسط. كذلك كانت أهم موانئ الحج إلى مكة طوال أربعة قرون، من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر ميلادي. والعبابدة كانوا أبطال هداية القوافل وسادة الطرقات.

نتيجة ترحالهم وعملهم الدائم مع القوافل في الصحراء النوبية، حصل تزاوج بين العبابدة والنوبيين، فاستقروا في مستعمرات صغيرة في منطقة شندي وغيرها حتى فترة حكم محمد علي باشا الذي غزا المنطقة في أوائل القرن التاسع عشر. اليوم، ما زال العبابدة يعملون في التجارة، وقد أنشأوا شركات تجارية كبيرة لنقل البضائع إلى المناطق البعيدة جداً عن مواقعهم الأصلية. يُذكر أنّ تعداد سكان المنطقة من القبائل حالياً، يصل إلى نحو 250 ألف نسمة.




على الرغم من غزو محمد علي منطقة العبابدة، إلا أنّ التاريخ سجّل تأديتهم دوراً رئيسياً في ضمّ أقاليم السودان إلى مصر. كان ذلك في الحملة التي قادها إسماعيل كامل، نجل محمد علي باشا، لضمّ منطقة سنار، وكذلك في حملة محمد بيك خسرو لضمّ كردفان. هم راحوا يمدّون الجيوش بالجمال التي تنقل المؤن والعتاد الحربي والأفراد للقتال في صفوف الجيش المتحرك صوب الأراضي السودانية. يُضاف إلى ذلك دورهم الرئيسي كمرشدين للجيوش في دروب الصحراء، التي كان من الممكن أن يهلك فيها الجيش تماماً لولا وجود العبابدة.

كان العبابدة سادة الطرقات منذ عصر الرومان، حين كانوا ينقلون خيرات هذه المنطقة الوفيرة. في ذلك الزمن، حين لم تكن الأرض بالجفاف الذي هي عليه اليوم، بل كان يسقيها قدر وفير من الأمطار حتى القرن الثاني عشر ميلادي، وكانت بالتالي تضمّ غابات وأودية خضراء وأنهارا. الوديان الجافة اليوم بمعظمها، كانت تتخلّلها أنهار جارية. إلى ذلك، كانت تسكن المنطقة حيوانات ضخمة مثل الفيلة إلى جانب حيوانات الرعي. جيوش المماليك التي دخلت إلى تلك المنطقة قديماً، وصفت كذلك تلك المشاهد.

من جهة أخرى، يعاني العبابدة والبشاريّة منذ عقود، من تهميش الدولة ومعاملتهم كمواطنين درجة ثالثة. فهؤلاء يُتّهمون دائماً بأنّهم مصدر قلاقل في المناطق الحدودية، على خلفيّة أعمال التهريب. كذلك، كثيراً ما تصادر قوات حرس الحدود حيواناتهم التي يرعونها داخل الحدود المصرية، فتبيعها في مزادات علنية بحجّة الرعي في منطقة محظورة عسكرياً.

متسللون في إرضهم

كبيرة هي معاناة أبناء قبائل العبابدة والبشاريّة نتيجة عدم قوننة أوضاعهم. وتتكرر الشكاوى من أنّهم ما زالوا يحملون بطاقات شخصية ورقية، إذ إنّ الجهات الأمنية المصرية المعنية ترفض تزويدهم ببطاقات ممكننة تحمل الرقم القومي. ويشكو هؤلاء كذلك من أنّهم يحاكَمون في داخل أراضيهم بتهمة التسلل، في حين تُطلق النار عليهم بتهمة وجودهم في منطقة محظورة عسكرياً.