الفوضى تحكم كلّ شيء في بلادنا. ندّعي الكثير من التنظيم لكنّ الواقع يشير إلى أنّ الفوضى هي البنية. أما التنظيم فهو مجرد ظرف لا يجد في معظم الأحوال أرضاً خصبة للتطبيق. الفوضى تتملكنا والتنظيم يبقى في عليائه غير قادر على الاندماج في مجتمعنا والحلول مكانها. هناك هو في علبته الجديدة المركونة على رف مغبر، لم ينزل عنها منذ استوردناه وأملنا منه أن يكون حلاً سحرياً لمشاكلنا على كثرتها.
التنظيم في بلادنا يشبه جهازاً خاصاً بتكنولوجيا النانو أهدي إلى مؤسسة رسمية في لبنان. جُهزت له غرفة خاصة، لكنّ أحداً لا يعرف كيف يعمل عليه. تحول في لحظة، وما زال، إلى مجرد تحفة غالية الثمن، وهدية متقدمة علمياً، لكن لا فائدة منها واقعياً.
أن يكون المستشفى قريبا من مسجد، فلا مفرّ من ذلك.. المساجد موجودة في كلّ حيّ وشارع في مدننا المختلفة. لكن أن تبث تلك المساجد يومياً بمكبرات صوتها التي تخترق الجدران نعياً من هنا ونعياً من هناك فهي مفارقة لافتة، بل أزمة.
تصل إلى مسمع النائم على سريره في غرفة العناية الفائقة، أو المنتظر الدخول إلى غرفة العمليات، أو تلك التي لم تعد تحتمل أوجاعها بعد فك البنج عنها عبارات الموت تلك كما لا تصل إلى غيرهم. "انتقل إلى رحمته تعالى فلان الفلاني".. "البقاء لله".. "لكم من بعده طول البقاء"... فأيّ بقاء ذلك الذي يتحدثون عنه بتذكير المرضى بالموت الذي هم يصارعون؟
يتغافل الناس عن ذلك. لا ينتبهون له، ففي وجدانهم الديني "كلّ نفس ذائقة الموت"، وفي واقعهم الاجتماعي "لا أحد يموت ناقص العمر". لكنّ هؤلاء أيضاً يتغافلون عن أثر مثل ذلك على المرضى.. أولئك الذين يعانون أساساً ظروفاً فيها الكثير من الشقاء في طرق باب المستشفيات، ويحسبون ألف حساب لقدرتها على علاجهم من دون أن تضرب صحتهم بطريقة أخرى عبر غلاء فواتيرها. يتغافلون عن كونه يبدّل صفة المستشفى لدى المرضى من مكان للرعاية الطبية والشفاء إلى طريق للتهلكة.
لا يتوقف الأمر عند النعي. فالنواح من عاداتنا المتجذرة. وإذا مات مريض في المستشفى جعل أهله ينوحون ويصرخون حتى يصل صوتهم إلى من هم غارقون في غيبوبتهم حتى. ذلك يصرخ "يا أبي"، وتلك "يا أخي"، وغيرها تستعيد تقاليد جدتها وأمها وتنتزع نواحاً ضارباً في القدم: "راح العمود.. راح سندي.. يا ويلي من بعدك يا روحي". وصغار يبكون ملء أفواههم قبل عيونهم وهم يزايدون على الكبار، ويمطّون حروف علتهم: "يا جدّي".
للموت وقعه الصادم بلا شك، ولأهل الفقيد الكثير من الحق في النواح على من أحبّوه وأحبّهم. لكن، وكما يعلّق موظف في المستشفى نفسه: "مات وقصف عمر المرضى الباقين".
اقرأ أيضاً: تعاطف كاذب