"وجه أبي" الجزائري

13 ديسمبر 2016
يحصدان "زرّيعة الروح" (إسماعيل مالكي)
+ الخط -

تترجم الطقوس المرافقة لعمليّة الحرث في الريف الجزائري علاقة الإنسان بأرضِه، التي يراها عرضَه، غير أنّ تحوّلات عديدة أدّت إلى إهمال هذه الطقوس.

"وجه أبي". هكذا يسمّي القرويّ الجزائري الأرض التي يملكها، إذ هي بعض من عرضه والخيط الذي يربطه بسلالته. والأرض هي ميراث، يُعدّ إهماله أو بيعه إلى غير الأهل مجلبة للعار، بينما توسيعه بشراء قطعة جديدة مجلبة للفخر. وثمّة حكم وأمثال ومحكيات شعبيّة تقول بذلك، منها أنّ أحدهم باع أرضاً ورثها عن أبيه، فصار كلما أكل من ثمنها تحوّل الطعام إلى حيّات وعقارب في بطنه. لم يتوقّف ذلك إلا حين استرجع "وجه أبيه".

وعلاقة الجزائري الخاصة بأرضه ترتكز على خلفيات تاريخية مرتبطة بأزمنة الاحتلال المختلفة، عندما كان التشبّث بها واجباً وكان التنازل عنها للغريب الوافد جرماً مهما كان المبلغ المدفوع.

تختلف مزروعات القرويين الجزائريين في أراضيهم، غير أنّ القمح والشعير يأتيان في الطليعة، إذ إنّهما غذاء الإنسان والمواشي. وبالتالي يحظيان بقداسة استثنائية ويُطلق عليهما "زرّيعة الروح"، أي بذرة الروح التي تحفظ الحياة. وتُستهجَن "إهانتهما"، كأن تُرمى حفنة منهما في مكان قذر أو يتفوّه صغير أو كبير بكلمات بذيئة في بقعة يكونان فيها. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه القداسة، التي يحظى بها القمح والشعير لدى القرويين الجزائريين لحظة زرعهما وحصادهما ودرسهما ونقلهما إلى المخازن وغسلهما وتجفيفهما وطحنهما وعجنهما، تشبه القداسة التي يحظى بها الزيتون لدى الأمازيغ في الشمال والتمر لدى الصحراويين في الجنوب.

يشكّل موسم هطول المطر في الخريف، الوقت المناسب لانطلاق عمليّة البذر والحرث، تسبقها عملية تنقية الأرض من الحجارة والأشواك. يقول العم سعيد من أعالي منطقة الأخضرية: "أستحي أن أضع زرّيعة الروح في مكان غير منقّى. هي روح وليست مادة، والدليل أنّ عشبة حيّة تخرج منها لتمنح حبّات حية. وليس مستبعداً أن تأبى التفاعل إذا أحسّت بتهاون فلّاحها وإهماله". ويخبر العم سعيد "العربي الجديد" أنّ الفلّاح يقضي من الوقت مع أرضه وزرعه أكثر ممّا يقضي مع أسرته ومعارفه، "وهذا ما يُفسّر الطقوس لحظة الحرث مثلاً. في نظر الفلاح، تشبه تزويجه ابنه في انتظار إنجابه أطفالاً يضمنون استمرار السلالة".




من جهتها، تشير الحاجة، تسعديت صيّاد، من قرية عين النوق، إلى جملة من الطقوس والعادات المرافقة لعمليّة الحرث. تقول لـ "العربي الجيد" إنّ "الأمر يبدأ بانتقاء القمح الجيّد الذي يُسمّى القمح البليوني. وهو مذكور في الأغاني الشعبية، ونشبّه به الرجل في الأصالة والنقاء والنبل. وإذا حدث أن خلا بيت منه، إمّا أن يشتريه أهله وإما أن يستلفونه من بيت آخر، على أن يُعاد في موسم الحصاد صيفاً". تضيف أنّ "انتقاء الفلّاح بذوره هو امتداد لانتقائه عروساً لابنه". وتشرح أنّ "صبيحة اليوم الأوّل من الحرث، تقصد النساء مخزن القمح ويخرجن منه كميّة تشوى على النار، قبل أن تُطحن وتُخلط بالماء الساخن ويُضاف إليها السمن البلدي أو زيت الزيتون مع العسل أو السكّر. هكذا يحصلن على طبق يسمّى الروينة، يوزّعنه على الأطفال جلباً للبركة وعلى النفساء إن وجدت في البيت، وثم على المسنّين فالنساء. وتُحمل كميّة منه إلى القائم بعمليّة الحرث، فيتناول بعضها ويدفن الباقي في خطّ الحرث".

وتكمل الحاجة تسعديت: "في المساء، نذبح الدجاج البلدي ونعدّ الكسكسي بالفول اليابس. فتكون ليلة شبيهة بعرس عائلي. وعادة ما تطول السهرة، لأنّها تشهد توافد الأصهار والأقارب الذين يلعبون لعبة الخاتم". في هذه اللعبة، "يؤتى بـ 12 فنجاناً، ويُغطّى أحد اللاعبين بإزار، فيما يوضع خاتم تحت أحد الفناجين. إن عثر عليه اللاعب في المحاولة الأولى أو الأخيرة عُدّ رابحاً. وإذا لم يفعل، فإنّ منافسه يحصل على نقاط بعدد الفناجين المتبقية".

إلى ذلك، تعرف بعض المناطق طقساً يخرج فيه كبير العائلة إلى القطعة المراد حرثها، حاملاً منجلاً تبرّكاً بموسم كثير الحصاد. وترافقه زوجته التي تحمل كيساً محشواً بالأحذية والألبسة القديمة، لتدفنها في البقعة المحروثة، دلالة على الارتباط الأبدي بالأرض.

ما عدا المناطق الجبلية والوعرة، تُستخدم الجرّارات الحديثة بدلاً من البغال والثيران والحمير في حرث الأرض. وقد مسّ التطوّر عمليتَي الحصاد والدرس، وهو ما جعل الطقوس والعادات عرضة للزوال. وكثيرون هم الفلاحون الشباب الذين لا يطبّقونها، على الرغم من استحسانهم لها.

في هذا السياق، يقول الكاتب والمربّي محمد بوطغان لـ "العربي الجديد" إنّ "موجة النسيان هذه، لم تمسّ طقوس الحرث فقط، بل طقوس الختان والزواج وتشييد البيت الجديد والنفاس وكذلك الحلاقة الأولى للطفل". يضيف: "حين تكون المجتمعات غير مؤطّرة بوعي عميق بهويتها، تفقد كثيراً من عاداتها وتقاليدها وطقوسها وملامحها الحضارية، في ظلّ التحوّلات المختلفة". ويتابع: "يدهشني مثلاً أنّ الفتاة الجزائرية اليوم باتت تتفنّن في صناعة الحلويات العصرية، لكنها إذا وصلت إلى الحلويات التقليدية أسلمت المهمّة لأمّها أو جدّتها".

دلالات