"أردتُ معانقة كل جزء منه، علّني أُخزّن رائحته للأيام التي سأعيشها من دونه". هذا ما قالته أم حسين، الخمسينية، لدى الحديث عن ابنها حسين الذي قُتل على أيدي النظام السوري في منطقة القلمون (غرب سورية)، وقد استشهد على الفور حتى قبل وصوله إلى المستشفى.
تركت السنوات على وجه أم حسين، أو هدى، بعض التجاعيد حول عينيها وفمها. ما زالت ترتدي الزي القلموني الشعبي، وتضع غطاءً أبيض على رأسها. هي أم لثمانية أولاد. لكن النظام خطف منها ابنها وزوجها، لتصير وحدها المسؤولة عن إعالة أسرتها. تحكي حادثة فقدان زوجها. تقول: "أرادوه ميتاً. أصيب بطلق ناري في رأسه بينما كان يحرث بستان الكرز في سفوح القلمون. زوجي لم يحمل السلاح ولم يقتل أحداً. شارك فقط في إحدى التظاهرات المسائية في بداية الثورة". وهتف: "بالروح بالدم نفديك يا درعا".
في ذلك الوقت، كان حسين جندياً. إلا أنه اتخذ قراره بالانشقاق بعد مقتل والده، ومزّق بطاقته العسكرية. ساء وضع أم حسين الصحي بعد مقتل زوجها، علماً أنها تعاني أصلاً من داء السكري. تقول: "يومياً، كان يصطحبني ابني إلى مستوصف البلدة. في أحد الأيام، لحقت بنا مجموعة من المخبرين، وقتلوا ابني أمام عيني. لم أعِ شيئاً ذلك اليوم. تمنيت أن أموت معه. كيف أحيا وابني تحت التراب؟".
دفنته بيديها. ما زالت تغسل ثيابه بين الحين والآخر، وتعد أكلاته المفضّلة. خلقت لنفسها عالماً آخر، لا يشبه الواقع الذي تعيش فيه. في عالمها، حسين لم يمت. لم تكن قد شفيت بعد من جرح فقدان زوجها ورفيق عمرها، حتى فقدت ابنها. تقول إن الأمر "مؤلم. ليت بإمكاني إعادته للحياة".
مع بداية التسلّح في المناطق الثائرة مطلع عام 2012، نتيجة العنف الذي قوبلت به التظاهرات السلمية، قررت أم حسين الانخراط في العمل العسكري. انضمت إلى صفوف التجمع الغربي للقلمون الذي يضم فصائل عسكرية عدة. لم تحمل السلاح ولم تقف على جبهات القتال. كانت فقط أماً لـ52 شاباً من أفراد الجيش الحر. تقول: "عوّضني الله بهم. رأيت فيهم ابني. كنت أعد الطعام لهم، وأرافقهم وأستمع إلى أخبارهم وهمومهم".
أيضاً، نجحت أم حسين في تزويج تسعة من الشباب الذين كانت مسؤولة عنهم في عرس جماعي. تقول: "تواصلت مع أهالي جبل القلمون المغتربين في الخارج. طلبت منهم التبرع بمبالغ مالية بسيطة (نحو 100 ألف ليرة سورية)، لكل شاب، بهدف تغطية مصاريف العرس المتواضع". تضيف: "سعادتي تخطت حدود السماء. شعرت وكأنني أُزوّج ابني حسين، وخصوصاً أنه كان قد طلب مني قبل موته مساعدته على إيجاد فتاة مناسبة للزواج". تتذكر كلماته: "بدي اعمل عيلة".
كان بيتها الريفي ملجأً لكل إنسان يحتاج لمساعدة. ساعدت النازحين على الخروج من القلمون باتجاه الأراضي اللبنانية هرباً من البراميل المتفجرة، إلى أن تعرّض بيتها لصاروخ أدى إلى إحراقه بالكامل، فيما أصيب أحد أبنائها بشظية.
هربت هدى إلى لبنان أواخر عام 2013. تقول: "كان لكلمة لاجئة وقعاً صعباً عليّ. عرفت ذلاً لم أعرفه في حياتي. سكنت في قبو في عرسال (سلسلة جبال لبنان الشرقية)، كان أشبه بقبرٍ يضم عشرة أشخاص".
تعمل هدى اليوم في مركز يهتم بشؤون المرأة السورية، ويضم 50 امرأة. حزين عيد الأم هذا العام. مع ذلك، تحاول ألا تستسلم للحزن من خلال العمل على إسعاد الآخرين. بهذه المناسبة، تُشارك في التحضير لنشاط ترفيهي، وتعمل على نشر أفكار السلام بين اللاجئين السوريين، وتساعد الأمهات على كسب المال من خلال أعمال بسيطة. تختم حديثها قائلة: "تعبت. أريد أن أعيش مع أولادي بأمان. لا بد أن نتجاوز مأساتنا ونكمل طريق الكرامة الذي بدأه السوريون منذ أربعة أعوام".