بدا لي أنّ عامل المحطة الهندي يبتسم. في ما مضى كنت أراه مقطّب الحاجبين فأروح أفكّر بأسباب تعاسته. لعلّها الغربة عن الوطن، أو معاملة صاحب العمل له. ربما كان الأجر القليل الذي يتقاضاه بدل أتعاب وهي بالتأكيد مرهقة. وقد تكون عاطفة مكتومة نحو حبيبة في بلاد بعيدة.
غالباً ما سبّب لي دخول المحطة لتعبئة الوقود ألماً في المعدة. ألم يعود لسعر الصفيحة المرتفع الذي يرتبط بعاملين: سعر برميل النفط الذي ظلّ دوماً في ارتفاع، والضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة على الوقود من أجل سدّ العجز في الخزينة.
أتخيّل وزيراً متوحشاً يجلس خلف مكتبه في كرسي وثير، بعد أن مدّ نبريشاً طويلاً إلى خزان سيارتي كي يسابقني على ما فيه من وقود. وأتخيّل كرشه الكبير ينتفخ كلما شرب من وقود سيارتي. فأخشى دائماً أن يسهو بينما يدخّن سيجاره الغليظ، فينفجر كرشه الكبير.
في المرة الأخيرة التي ملأت فيها خزان الوقود كان عامل المحطة الهندي يبتسم. أو لعلّني ظننت ذلك بسبب انخفاض سعر الصفيحة أخيراً.
الهلوسة تحدث أحياناً.
***
ما زال صوت البوق الحادّ يصرع الآذان كلّما حضر الطّنبر العتيق بدولابين. يخرج صاعقاً إشارة إلى أنّ الكاز قد وصل. كان هذا المشهد ليكون عادياً في بيروت الثلاثينيات أو الأربعينيات. لكن أن يظهر الطّنبر اليوم فمفارقة غريبة بالفعل.
لا يتعب بائع الكاز من الدوران في المدينة. لا أحد يعرف من أين يظهر هو و"الكديش" (الحصان العجوز) ولا أين يختبئان في آخر النهار. فلا قناديل تعمل على الكاز ولا بوابير (سخّانات) طبخ أو تدفئة كذلك.
ومع ذلك، يظهر ويطلق بوقه في كل مرة إشارة إلى أنّ الكاز قد وصل.
***
يتذمّر سائق الأجرة طوال الوقت. يقول إنّ الحياة لا ترحم ومتطلباتها كثيرة، وإنه يجلس خلف المقود أكثر من ثلثي يومه، ورغم ذلك لا يتمكن من تأمين جميع متطلبات العائلة. أما سيارته فكلّما أقلعت نفثت من عادمها غيمة سوداء سميكة يكاد من يسير خلفها يموت اختناقاُ.
ومع أنّ السيارة سدادة للرئتين أكثر منها وسيلة نقل، لا يملك الرجل بديلاً لها. يرفض الاعتراف بأن محرّكها لفظ أنفاسه الأخيرة ويلقي باللائمة على المازوت المغشوش. وهذا كلام لا يحترم ذكاء الراكب بالطبع.
ينظر سائق الأجرة في المرآة الأمامية في عيني الراكب بخبث، ويتابع بأنّ وزير الطاقة يستهدفه شخصياً. ثم يضحك. يضحك عالياً مثل المصاب بمسّ من الجنون.
غالباً ما سبّب لي دخول المحطة لتعبئة الوقود ألماً في المعدة. ألم يعود لسعر الصفيحة المرتفع الذي يرتبط بعاملين: سعر برميل النفط الذي ظلّ دوماً في ارتفاع، والضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة على الوقود من أجل سدّ العجز في الخزينة.
أتخيّل وزيراً متوحشاً يجلس خلف مكتبه في كرسي وثير، بعد أن مدّ نبريشاً طويلاً إلى خزان سيارتي كي يسابقني على ما فيه من وقود. وأتخيّل كرشه الكبير ينتفخ كلما شرب من وقود سيارتي. فأخشى دائماً أن يسهو بينما يدخّن سيجاره الغليظ، فينفجر كرشه الكبير.
في المرة الأخيرة التي ملأت فيها خزان الوقود كان عامل المحطة الهندي يبتسم. أو لعلّني ظننت ذلك بسبب انخفاض سعر الصفيحة أخيراً.
الهلوسة تحدث أحياناً.
***
ما زال صوت البوق الحادّ يصرع الآذان كلّما حضر الطّنبر العتيق بدولابين. يخرج صاعقاً إشارة إلى أنّ الكاز قد وصل. كان هذا المشهد ليكون عادياً في بيروت الثلاثينيات أو الأربعينيات. لكن أن يظهر الطّنبر اليوم فمفارقة غريبة بالفعل.
لا يتعب بائع الكاز من الدوران في المدينة. لا أحد يعرف من أين يظهر هو و"الكديش" (الحصان العجوز) ولا أين يختبئان في آخر النهار. فلا قناديل تعمل على الكاز ولا بوابير (سخّانات) طبخ أو تدفئة كذلك.
ومع ذلك، يظهر ويطلق بوقه في كل مرة إشارة إلى أنّ الكاز قد وصل.
***
يتذمّر سائق الأجرة طوال الوقت. يقول إنّ الحياة لا ترحم ومتطلباتها كثيرة، وإنه يجلس خلف المقود أكثر من ثلثي يومه، ورغم ذلك لا يتمكن من تأمين جميع متطلبات العائلة. أما سيارته فكلّما أقلعت نفثت من عادمها غيمة سوداء سميكة يكاد من يسير خلفها يموت اختناقاُ.
ومع أنّ السيارة سدادة للرئتين أكثر منها وسيلة نقل، لا يملك الرجل بديلاً لها. يرفض الاعتراف بأن محرّكها لفظ أنفاسه الأخيرة ويلقي باللائمة على المازوت المغشوش. وهذا كلام لا يحترم ذكاء الراكب بالطبع.
ينظر سائق الأجرة في المرآة الأمامية في عيني الراكب بخبث، ويتابع بأنّ وزير الطاقة يستهدفه شخصياً. ثم يضحك. يضحك عالياً مثل المصاب بمسّ من الجنون.