غرقى ليبيا... جثث في كل مكان وصعوبات بالوصول إليها

20 سبتمبر 2023
عمليات الإنقاذ في البحر ليست سهلة (كريم صاحب/ فرانس برس)
+ الخط -

بعد مرور عشرة أيام على الفيضانات التي ضربت شمال شرق ليبيا من جراء العاصفة دانيال، تتجه الأنظار إلى أعداد الجثث المستخرجة والمتراكمة على شاطئ البحر. وتبقى العديد من الأسئلة من دون إجابات واضحة من الجهات المسؤولة: كم يبلغ عدد هذه الجثث؟ وكم عائلة من أهالي درنة جُرفت إلى البحر؟ وهل ستنجح جهود الإنقاذ في انتشالهم جميعاً؟ 
آخر الأرقام التي أعلنها وزير الصحة في حكومة مجلس النواب عثمان عبد الجليل، خلال مؤتمر صحافي، تفيد بأن أعداد الجثث وصلت إلى 3338 جثة. كما تطرق إلى القطاع الصحي بالمدينة وما تم تقديمه من قبل الحكومة لدعمه. 
ويتركّز البحث حالياً على الشواطئ، وأعلن فريق مكتب الأثر بجهاز المباحث الجنائية أول من أمس الاثنين، عن انتشال 38 جثة من ضحايا الفيضانات والسيول من أربعة مواقع على امتداد الشواطئ، وذلك على مقربة من منطقة الفتايح شرق مدينة درنة، وقد تزايدت وتيرة عمل الإنقاذ البحري مؤخراً. 
وظهرت جثث كثيرة في ميناء درنة. وكان انتشالها صعباً بسبب نقص الإمكانات اللازمة والصدمة وغياب التنظيم في الأيام الأولى لفرق المتطوعين غير المستعدين، بالإضافة إلى انعزال المدينة عن المدن الأخرى نتيجة انهيار الجسور وتقطع الطرقات. 
وفي ظل قوة الأمواج الناتجة من الإعصار وسيل وادي درنة الهادر وتأخر جهود الإنقاذ، زاد انتشار الجثث. غرق بعضها وجرفت التيارات البعض الآخر إلى مناطق أبعد، الأمر الذي أدى إلى توسيع دائرة البحث عن الغارقين بعد وصول فرق الإنقاذ المحلية ثم العربية والأجنبية.  
في الأيام الأولى، اقتصرت غالبية جهود إنقاذ الغارقين على المروحيات، ومكن الوصول المبكر للفرق التركية من إنقاذ البعض. وعقب هدوء العاصفة النسبي واتجاهها شرقاً نحو الأراضي المصرية، وصل رجال الضفادع البشرية والصيادون وهواة الغطس وحتى أصحاب الدراجات البحرية، إلى المناطق المتضررة. إلا أن الإنقاذ البحري لم ينل التغطية الإعلامية المناسبة بسبب تسليط الضوء أكثر على انتشال الجثث الكثيرة من تحت الأنقاض.  
وبدأت جرافات وقوارب الصيد أولاً في تمشيط المناطق المجاورة لدرنة على امتداد الشاطئ، حيث تم الإبلاغ عن وجود جثث طافية على الشاطئ أو داخل الجروف الصخرية. لكن الأعداد وقتها لم تقارن بالآلاف المنتشلة من تحت المباني المنهارة في أحياء المدينة. 

وعلى الرغم من التخبط في إدارة الأزمة والاعتماد الرسمي على الأرقام الصادرة فقط عن وزير الصحة الذي بدأ مؤخراً الإعلان عن الجثث المدفونة وليس المنتشلة من البحر، وفي ظل الفجوة الكبيرة بين أرقام الضحايا المعلن عنها من الوزارة وتصريحات الأمم المتحدة، لم تفرز الجثث المنتشلة أكانت من البحر أم البر. وخلال المؤتمر الصحافي، وصف عبد الجليل الأرقام المتداولة بغير الصحيحة، في إشارة إلى الأرقام المعلنة من الأمم المتحدة مؤخراً والبالغة 11300 ضحية. 
يقول المتطوّع مع فرق الإنقاذ فيصل العبيدي لـ "العربي الجديد": "العامل الوحيد الذي يقرب بين الرقم الليبي الرسمي والتقديرات الأممية هو عدد المفقودين الضخم للذين لم يعثر على غالبيتهم سواء أحياء أو أموات". ويشير إلى أن العدد الأكبر من المفقودين موجود الآن في عباب البحر، ولكن في دائرة بحث اتسعت كثيراً الأمر الذي يضعف الآمال في العثور على جثثهم، ومنحهم حقهم في الكرامة الإنسانية والدفن بشكل شرعي ولائق. 
واتسع نطاق البحث بشكل كبير وذلك منذ اليوم الرابع للكارثة. وتظهر الصور والفيديوهات في المناطق الفاصلة بين درنة وطبرق (إلى الشرق) ظهور جثث جرفتها التيارات لأكثر من 50 كيلومتراً. وتحدثت مجموعات الإنقاذ والإغاثة على مواقع التواصل الاجتماعي عن وجود جثث في مناطق شاسعة بعضها بعيد عن درنة. 
ويؤكد الغطاس وخبير الإنقاذ الليبي والمشارك في عمليات الإنقاذ البحري بدرنة، مراد بن يونس، وجود غرقى خارج مدينة درنة، مشيراً إلى إمكانية جرف التيارات القوية جثث أهالي درنة إلى مناطق بعيدة. ويشير إلى أن معدل الأمطار الذي وصل إلى رقم قياسي (400 ملم) يمكنه جرف كل ما هو أمامه، وخصوصاً مع طبيعة الجبل الأخضر المنحدر نحو البحر المحاذي له شمالاً. 

ليبيا (الأناضول)
غالبية الذين سحبوا إلى البحر بالطريقة التي حصلت مع أهالي وسط درنة لم تكتب لهم النجاة (الأناضول)

وفي السياق، نشر بعض أفراد الأجهزة الأمنية عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات تظهر سيارة تابعة للإنقاذ البحري، وقد جرفتها السيول بعيداً على مقربة من مدينة البيضاء. ونشر آخرون حاوية بضائع حديدية من الحجم الثقيل وقد طرحها التيار داخل أحد أزقة مدينة درنة، فضلاً عن إحدى السيارات التي حملتها السيول إلى سطح الدور الثالث في أحد مباني درنة الناجية من الانهيار. هذه الشواهد يعتبرها بن يونس تأكيداً على قوة سيل المياه "التي حتماً ستكون قادرة على جرف آلاف المواطنين إلى البحر". ويسأل: "أين ذهب المفقودون في درنة؟ ولماذا يزداد رصد الجثث في البحر مؤخراً؟". 
ويقول بن يونس: "في البداية، كان انتشال الجثث من البحر صعباً نتيجة عوامل عدة، منها عدم وضوح الرؤية في المياه بسبب تعكرها بالطمي القادم من الوادي. لكن السبب الرئيسي يرجع لنزول جسم الغريق في قاع البحر، وخصوصاً إذا كان متعلقاً بشيء ثقيل كأن يكون داخل سيارته وجرفه السيل وهو يحاول الفرار. وأعتقد أن الكثير ممن فقدوا كانوا يحاولون الهرب بسياراتهم". 
من جهته، يوضح الطبيب الشرعي بلال الحصيني، أنه "غالباً ما يفقد الشخص الوعي بعد مرور دقيقتين على الغرق، ثم يحدث تلف في الدماغ، ما يجعله غير قادر على الخروج من سيارته. وحتى إن كان يجيد السباحة، فالمياه المتحركة بقوة ستمنعه من ذلك". 
يضيف الحصيني في حديثه لـ "العربي الجديد": "تلف الدماغ يرجع لنقص الأوكسجين وعدم وصوله إلى الأنسجة العصبية الدماغية ما يؤدي إلى الوفاة. ويحدث الأمر خلال موجات السيل القوية التي تقلل من فرص البقاء لأيّ شخص يتعرض لها". 


ويقول بن يونس إن "غالبية الذين سحبوا إلى البحر بالطريقة التي حصلت مع أهالي وسط درنة لم تكتب لهم النجاة"، مضيفاً: "لن نفترض أن كل من دفعوا إلى البحر لا يجيدون السباحة، وخصوصاً أنهم سكان مدينة ساحلية ويعرفون التعامل مع البحر جيداً، لكن كل التقنيات كالاستلقاء على الظهر والاستسلام حتى يبقى الجسم طافياً على المياه تعد ظروفاً مثالية في مثل حالة السيول الجارفة بقوة". وتجرف السيول مخلفات وسيارات وأشجارا وطوب وإسمنتا مسلحا، وهذا يقلص من فرص النجاة بشكل كبير، بسبب إمكانية الاصطدام بها. كما أن أمواج البحر العالية والمتحركة بشكل كبير تعني موتاً شبه محتم. 
وفي ما يتعلق بتزايد ظهور الجثث في البحر مؤخراً، يقول اليونسي: "تغرق الجثث بداية لتعود وتطفو بعد فترة"، مرجعاً السبب إلى تحلل الجسم وتفاعل مكوناته الداخلية مع مياه البحر المالحة، ما يجعل الجسم أخف بشكل كبير وخصوصاً مع فقدانه كميات من المياه منه. ويشير إلى أن غالبية الجثث التي أظهرتها مقاطع فيديو منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي كانت "مقلوبة ووجوهها في المياه" بسبب ارتخاء الأطراف نحو الأمام. 
لهذه الأسباب إذاً، تطفو الجثث ويجرفها البحر بسهولة، ما سبب مشكلة كبيرة يتمثل في انجرافها بسهولة إلى الأجراف والخلجان المنتشرة على طول شاطئ درنة ومناطقها المجاورة، وصعب من عملية العثور عليها ثم انتشالها، وفقاً لليونسي. 

ليبيا (هالل فيدان/ الأناضول)
ما زاد من تعقّد مشكلة غارقي درنة هو جرف السيول لسيارات عدة مع ركابها (هالل فيدان/ الأناضول)

وما زاد من تعقّد مشكلة غارقي درنة هو ما أشارت إليه شهادات متطابقة عن جرف السيول لسيارات عدة مع ركابها إلى عرض البحر. وتشير تصريحات رئيس قوات الأركان الجوية في شرق البلاد، محمد المنفور، إلى عثور فرق الإنقاذ على جثث داخل السيارات الغارقة.  
وفي تصريح مسجل وزعه المنفور على وسائل الإعلام، أكد أن فرقة من الغطاسين الجزائريين اكتشفت العشرات من السيارات الغارقة في عمق البحر وأصحابها المحتجزين داخلها، وسط أطنان من مخلفات السيول التي انجرفت معهم. 
وانتشر على مواقع التواصل مقطع فيديو لاجتماع رؤساء فرق الإنقاذ المصرية مع رجال أمن ليبيين. وخلال الاجتماع، أكد أحد رجال الإنقاذ المصريين وجود أعداد كبيرة من السيارات في الميناء ومناطق أخرى وفي أعماق بعيدة، مرجحاً أن أجزاء كبيرة منها قد تكون غرقت بركابها. 
وهذه "كارثة كبيرة" كما يصفها زياد الزوي، الذي شارك في تمشيط المنطقة الواقعة إلى شرق درنة، وصولاً إلى التميمي بنحو 60 كلم، لأن السيارات "ستمنع الجثث من الطفو، وسيتطلب إخراجها جهوداً مضاعفة وتقنيات لا يمتلكها الليبيون، في الوقت الذي بدأت فيه فرق إنقاذ أجنبية المغادرة بعد تضاؤل الآمال في العثور على ناجين". 

وأول من أمس الاثنين، أعلن الفريق الإسباني انتهاء مهمته في ليبيا ومغادرته بعد أيام من مشاركته في إنقاذ وانتشال مئات الجثث داخل درنة. ويُعرب الزوي عن خشيته من مغادرة الفرق الأخرى التي لم تأت مصحوبة بخبراء الانتشال من البحر، قائلاً: "ستبقى فرق الإنقاذ الليبية تواجه لوحدها هذا التحدي". 
ووفقاً لشهادة عبد السلام شاعول من منطقة التميمي، فإن البحر قذف ما لا يقل عن 300 جثة. ويقول لـ "العربي الجديد": "هذا ما رأيته، وأبلغنا فرق الإنقاذ في درنة مرات عدة. واستجابت فرق إنقاذ محلية لكن لم يكن واضحاً أنها قادرة على الدخول إلى كهوف ومنعرجات في ساحل البحر، على الرغم من الاكتشاف عبر طلعات الطيران أن تلك الكهوف مليئة بالجثث". 
ولأول مرة، تحدث عبد الجليل في مؤتمره الصحافي عن أعداد المفقودين، مشيراً إلى أنهم قرابة 4000 مفقود، مستدركاً بالقول: "لا يمكننا أن نقول إنهم مفقودون كلهم"، من دون أن يبين الأسباب. وفي جميع الأحوال، لا يتوافق الرقم مع حجم الكارثة، بحسب الزوي، الذي يؤكد أن العدد أكبر من ذلك. ويقول: "الأزمة انتقلت إلى مرحلتها الأكثر خطراً"، مشيراً إلى أن المتطوعين "لا يفكرون في الغرقى في البحر أو المتكومين داخل الكهوف الصغيرة على الشاطئ، أو الطافين على الشاطئ إذ لا يمكن الاقتراب منهم بسبب تحلل جثثهم بشكل كبير". 

المساهمون