يتكرر انتشال جثامين ضحايا رحلات الهجرة السرية قبالة السواحل التونسية خلال السنوات الأخيرة، ما استدعى وجود مقبرة لدفن مجهولي الهوية من بينهم، وكذا دفن الضحايا الذين لا يملك أهلهم استعادة جثامينهم.
وسط غابات الزيتون الواقعة جنوبي مدينة جرجيس، يرقد ضحايا مراكب الهجرة السرية في مدافن خاصة يطلق عليها اسم "مقبرة أفريقيا"، حيث تحيط باقات الورود بالأضرحة التي تحتضن جثامين أشخاص مجهولي الهوية ممن ركبوا البحر بحثا عن أمل في حياة أفضل على الضفة الشمالية للبحر المتوسط، لينتهي بهم الأمر كأرقام في سجلات المقبرة.
ويقول السكان المحليون في جرجيس، إنه "في مقبرة الغرباء تنتفي الأديان والهويات والجنسيات، وتحضر فقط الإنسانية، فيشترك المسلم مع المسيحي أو اللاديني في المدافن التي خصصت لدفن الجثامين التي يلفظها البحر".
تضم المقبرة حاليا 400 ضريح، لكن طاقة استيعابها تصل إلى 600 ضريح، كما تضم أيضاً مختبراً مخصصاً لإجراء التحاليل الجينية على الجثث، ومغسلاً، وطاولة تشريح، وبراداً لإيداع الموتى، كما تضم أيضاً مصلى تشترك فيه كل الأديان، حيث يصلي الوافدون لزيارة الأضرحة من كل الجنسيات على أرواح أمواتهم، كما تسمح السلطات للراغبين في استعادة رفاة أبنائهم بذلك.
بين ممرات الأضرحة المجصصة ببلاط مزخرف، تتوزع القبور بمساحات متساوية، وكلها مطلية باللون الأبيض، ويكتب على شواهدها المعلومات الخاصة بكل مهاجر، ومن بينها جنسه وهويته إن وجدت، وتاريخ الدفن، وهل أجريت على الجثة التحاليل الجينية أم لا، وفي كل ممر غرست 5 أشجار زيتون ترمز إلى أركان الإسلام الخمسة، إلى جانب 12 من أشجار الكروم التي ترمز إلى عدد حواريي المسيح عليه السلام.
يشرف فاضل على حراسة المقبرة، ويشارك في دفن الضحايا وتغسيلهم، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "الجثث التي تدفن في مقبرة الغرباء عادة ما تكون لمهاجرين مجهولي الهوية، لكنها تضم أيضاً جثثاً لمهاجرين عثرت السلطات البحرية على هوياتهم الرسمية التي تسجّل لاحقاً على أضرحتهم، عسى أن يساعد ذلك ذويهم على استعادتهم يوماً ما. تدفن الجثث في المقبرة بناء على أذون دفن تصدرها السلطات القضائية، ويتم تسجيل تواريخ الدفن، وبقية المعطيات الخاصة بالضحايا في سجلات خاصة، كما تقام صلاة الجنازة على المسلمين منهم".
ويوضح فاضل: "ما نقوم به واجب إنساني قبل كل شيء، فوراء كل قبر رحلة معاناة خاضها المهاجر من أجل العيش بكرامة، والكرامة التي لم يبلغها المهاجرون في حياتهم تجعل تكريمهم في المدافن واجباً. دفن جثث الضحايا في مقبرة الغرباء يتزايد مع تزايد موجات الهجرة عبر قوارب الموت، وعادة لا أحد يعرف من أي نقطة انطلق المهاجرون، فقد تكون الجثث جرفها البحر من ليبيا، أو من قابس أو جربة".
يعود تاريخ إنشاء المقبرة بحسب لوحة على مدخلها إلى شهر يونيو/ حزيران 2021، حين تأسس مشروع "حديقة أفريقيا" من قبل الجزائري رشيد قريشي، والذي اشترى في نهاية عام 2018، قطعة أرض في جرجيس القريبة من الحدود مع ليبيا، يحيط بها شجر زيتون لإنشاء مشروعه.
وقال قريشي في تصريحات إعلامية سابقة، إن الهدف من مشروعه هو "حفظ كرامة الضحايا المجهولين، فالمهاجرون المدفونون في هذه المقابر، والذين قضوا في البحر، واجهوا الصحراء والعصابات والإرهابيين، وأحياناً التعذيب، ثمّ الغرق، وقد أردت أن أمنحهم بعض الراحة بعد جحيم محاولات الهجرة لتحسين حياتهم".
لكن أول من أنشأ مقبرة غير رسمية للغرباء، بحسب ما يرويه أهالي المدينة، كان البحار شمس الدين مرزوق الذي كان ينتشل جثث المهاجرين التي يلفظها البحر على سواحل جنوبي تونس، ويحاول تكريمها عن طريق الدفن في مقبرة خاصة، وقد قام بدفن عشرات الجثث متطوعاً، وكان يمر أسبوعياً على القبور ليزرع عليها أصنافا من الورود.
يقول مرزوق في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الصيادين يعثرون خلال رحلات الصيد اليومية على جثث مهاجرين طافية على سطح الماء، ذلك أن البحر يرفض احتضان الأموات، وهذا ما جعلني أفكر في إحداث مقبرة تحتضن جثامين الضحايا".
وتعد "حدائق أفريقيا" مقبرة الغرباء الأحدث في مدينة جرجيس، فمنذ مطلع عام 2000، أخذت البلدية على عاتقها دفن أكثر من ألف جثة لمهاجرين مجهولين من جنسيات واعراق مختلفة في قطعة أرض معزولة عن المدينة، أُطلق عليها أيضاً اسم "مقبرة الغرباء".
لكن المقبرة الأولى استنفدت طاقتها لتحل محلها مقبرة "حدائق أفريقيا" التي قد تستنفد قدرتها على احتضان جثامين المهاجرين مجهولي الهوية في وقت لاحق إذا ما استمرت وتيرة الهجرة السرية الحالية، ما قد يجبر السلطات على فتح مقابر جديدة في انتظار وقف نزيف الهجرة.