مقاربة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للدبلوماسيين أنهم لزوم ما لا يلزم طالما يمكنه استخدام تغريداته، عبر "تويتر"، وإجراء اتصالات هاتفية مباشرة مع زعماء الدول أو عبر معاونيه في البيت الأبيض. تأتي هذه المقاربة في سياق نظرته الدونية إلى وزارة الخارجية الأميركية، وتفضيله شخصيات من خارج ملاكها لملء شواغر رئيسية في مواقع السفراء حول العالم. التحدي الجديد الذي يواجه ترامب اليوم هو تعيين شخصية جديدة في موسكو بعد استقالة السفير الحالي جون هانتسمان. قرار قد يكون له انعكاسات على معركته المستمرة مع الكونغرس وعلى العلاقات الأميركية-الروسية.
حتى نهاية الشهر الماضي، عيّن ترامب 159 دبلوماسياً حول العالم، 86 منهم من وزارة الخارجية و73 تعيينات سياسية من خارج الملاك. هذه الأرقام تمثّل تقدماً كبيراً مقارنة مع بداية ولايته عندما رفض ملء الشواغر في إدارته باعتبارها "تعيينات غير ضرورية"، كما صرح لشبكة "فوكس" في فبراير/شباط 2017. وقد طلب فريق ترامب عشية استلام السلطة، في رسالة إلى وزارة الخارجية في يناير/كانون الثاني 2017 الاستقالة الفورية لكل من يشغل مناصب عبر تعيينات سياسية أجراها سلفه باراك أوباما. هذه التصفية السياسية من دون فترة سماح أدت إلى إفراغ الدبلوماسية الأميركية لفترة طويلة في بلدان رئيسية، مثل بريطانيا وألمانيا وكندا والسعودية، وكانت بداية الشلل البيروقراطي الذي لا يزال يطارد وزارة الخارجية.
بعدها بدأ ترامب مرحلة المحسوبية والحسابات السياسية والانتخابية في إقرار تعيينات السفراء، كما فعل أسلافه في هذا السياق. لكن مع الرئيس الحالي، فإن صورة استغلال النظام لمصالح خاصة أصبحت أكثر وضوحاً كما عدم اهتمامه الكبير بمعيار الكفاءة. هناك على الأقل 14 سفيراً تم تعيينهم من خارج الملاك، وهم من المتبرعين للجنة تنظيم حفل تنصيب ترامب التي تخضع حالياً لتحقيق فدرالي لاحتمال انتهاكها القوانين الأميركية. ويشغل هؤلاء مناصب رئيسية في عواصم مثل باريس ولندن وأوتاوا، ولعل أبرزهم السفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، وهو محامي إفلاس تبرع لترامب بنحو 300 ألف دولار. خلال جلسة التصديق على تعيينه أمام الكونغرس، في أغسطس/آب 2017، اعتبر السفير المعيّن لدى جزر باهاماس دوغ مانشستر أن باهاماس جزء من الولايات المتحدة، لكنها بالفعل دولة مستقلة منذ العام 1972. مانشستر يعمل في مجال العقارات، وتبرّع بمبلغ مليون دولار للجنة حفل تنصيب ترامب، لكن تعيينه لا يزال عالقاً في مجلس الشيوخ. السفير المعيّن لدى المغرب ديفيد فيشر هو تاجر سيارات من ميشيغن، وقد رد مجلس الشيوخ تعيينه إلى البيت الأبيض، لكن ترامب أعاد إرساله مجدداً إلى الكونغرس بداية العام الحالي، حيث لا يزال بانتظار التصديق على تعيينه. بعض تعيينات الإدارة تأخذ طابعاً حزبياً في الكونغرس، لكن أغلب هذه التعيينات تم رفضها من مجلس شيوخ ذات أغلبية جمهورية.
منذ خمسينيات القرن الماضي، كان هناك عُرف في تعيين السفراء الأميركيين بأن يكون الثلثان من الدبلوماسيين في وزارة الخارجية، والثلث تعيينات سياسية من خارج الملاك. لكن مع ترامب أصبحت المعادلة، نصف للدبلوماسيين والنصف الآخر للتعيينات السياسية. وبحسب إحصاءات الجمعية الأميركية للخدمة الخارجية، فإن هناك 52 منصباً فارغاً من أصل 250 منصب سفير متوفراً حول العالم. وخلال السنتين الأوليين من رئاسة ترامب، تم التصديق على 66 في المائة من تعيينات السفراء مقارنة مع أسلافه في نفس الفترة، باراك أوباما (89 في المائة) وجورج بوش الابن (84 في المائة) وبيل كلينتون (96 في المائة). وتقول دراسة لجامعة "ماركيت" إن ترامب اختار السفراء الأقل كفاءة منذ الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي انتهت ولايته عند وفاته في العام 1945. كما رأت الدراسة أن الانحدار في كفاءة السفراء بدأ تدريجياً منذ العام 1980. عادة يتم التدقيق بأسماء السفراء الذين يختارهم الرئيس قبل الإعلان عنهم رسمياً، وذلك يمر عبر مكتب شؤون الموظفين الرئاسي، الذي يصفه بريت بروين، المسؤول السابق في إدارة أوباما، بأنه يشبه "مكتب محسوبية رئاسيا". ويشير تحقيق لصحيفة "واشنطن بوست" إلى أن المكتب، في العهد الحالي، يديره شباب في العشرينيات من العمر تطوعوا سابقاً في حملة ترامب ولا يملكون الخبرة في هذا المجال، وبالتالي أصبح المكتب مكاناً اجتماعياً للتلاقي بين موظفي البيت الأبيض بدل التدقيق بالتعيينات قبل إرسالها إلى الكونغرس.
بعض تعيينات ترامب في مناصب السفراء كان لحسابات سياسية لإبعاد منافسين محتملين عن السباق الرئاسي، بحيث سيكون من الصعب عليهم انتقاده في حال خدموا في إدارته. ولعل أبرز هذه الأسماء السفيرة السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، والسفير لدى روسيا جون هانتسمان، الذي أعلن أنه سيستقيل بداية أكتوبر/تشرين الأول المقبل. كل من هايلي وهانتسمان يميلان إلى انتقاد الرئيس، لا سيما ما يتعلق بمواقفه الداخلية المتشددة، لكن قد يكون لهما حساباتهما السياسية الخاصة بعد الخروج من كنف إدارة ترامب. هناك أيضاً سفراء من خارج الملاك يتواصلون بشكل مباشر مع البيت الأبيض، ويتجاوزون وزارة الخارجية، مثل السفير الأميركي في برلين ريتشارد كرينيل الذي هدد أخيراً بسحب القوات الأميركية من ألمانيا إذا لم تدفع حكومتها 2 في المائة من ميزانيتها لتمويل حلف شمال الأطلسي، وفريدمان الذي ينسق مع البيت الأبيض بشكل مباشر، ومعروف عنه تجاهله لوزارة الخارجية التي لم تلعب أي دور يُذكر في إعداد خطة السلام التي يقترحها البيت الأبيض لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. وطبعاً لا يمكن تجاهل معاناة السفراء في الميدان حول العالم، وقد استقال عدد كبير منهم نتيجة هذا الأمر. تحدي هؤلاء السفراء هو التعامل مع تداعيات تغريدات ترامب اليومية التي تتناقض أحياناً مع سياسات الإدارة، وعليهم شرحها للمسؤولين في البلاد التي يخدمون فيها. وأبعد من ذلك، فإن السفراء ليسوا على إطلاع على كل المحادثات التي يجريها ترامب مع زعماء العالم أو محادثات صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر. ولعل هذا الغياب الواضح لدور وزارة الخارجية هو في علاقات البيت الأبيض مع روسيا والصين والسعودية. وقد جاء تعيين جون أبي زيد على وجه السرعة سفيراً أميركياً لدى الرياض نتيجة هذا الفراغ الكبير في الدبلوماسية بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
استقالة السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة كيم داروش أدت أيضاً إلى هواجس جديدة بين السفراء الأجانب المعتمدين في واشنطن، إذ إن هناك خشية حالياً من تسريب برقياتهم المنتقدة للرئيس الأميركي، وبالتالي يواجهون تغريدات ترامب الغاضبة التي قد تدفعهم إلى الاستقالة. صعوبات التواصل مع إدارة ترامب أصبحت ذهاباً وإياباً، بحيث يشعر أغلب السفراء الأميركيين في الخارج بالتهميش، وبأن أصواتهم لا تهم صانع القرار في البيت الأبيض، فيما يميل السفراء الأجانب المعتمدون في واشنطن إلى الرقابة الذاتية في توصيفهم لترامب في البرقيات التي يرسلونها إلى بلادهم. ولأن هذه الأمور لا تكفي لتقويض عمل الدبلوماسيين، فقد أمر مكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بتجميد كل المساعدات الخارجية لما تبقى من هذا العام، في خطوة تشير إلى إمكانية إلغاء كل هذه النفقات المتبقية التي تتراوح بين 2 و4 مليارات دولار. ويشمل التجميد، بحسب رسالة البيت الأبيض، المساهمات الأميركية في المنظمات الدولية وعمليات حفظ السلام والصحة العالمية والمساعدة الإنمائية والمكافحة الدولية للمخدرات. كل المساعدات الخارجية لا تتعدى 1 في المائة من إجمالي الموازنة الفدرالية، وبالتالي فإن إلغاءها لن يؤدي إلى تقليص الحجم المتنامي للعجز الفدرالي، لكنه يحرم السفراء الأميركيين في الميدان من ورقة أساسية في يدهم أثناء عملهم الدبلوماسي. هذا القرار المفاجئ للبيت الأبيض أتى خلال عطلة الكونغرس الصيفية، وبالتالي لن يتمكن الكونغرس من التصويت لوقف مفاعيله قبل عودة أعضائه إلى العمل في واشنطن في 9 سبتمبر/أيلول المقبل.