مأساةٌ بالنسبة لأوروبا، ولحظة حزن. هكذا وصف اليوم رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، التوقيع بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على اتفاقية "بريكست"، التي في حال وافق عليها البرلمان البريطاني الشهر المقبل، تصبح ناجزة المفعول، وتصير بمقتضاها بريطانيا خارج أوروبا الموحدة، بعد فترة انتقالية تبدأ في 29 مارس/آذار المقبل، وتنتهي في أول عام 2021.
ليست مسألةً عادية مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، فهي دولة أساسية في الاتحاد، يأتي اقتصادها في المرتبة الثانية بعد ألمانيا، وقوة نووية، وعضو دائم العضوية في مجلس الأمن، وقوة بشرية توازي فرنسا، كما أن لها تأثيرها في السياسات الدولية بحكم علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة، وماضيها الاستعماري الذي زودها بعلاقات اقتصادية وسياسية وثقافية على مستوى العالم، ومن هنا تأتي أهمية لندن كمركزٍ عالمي على مستوى المال والأعمال تحديداً، وهذا ما سوف يتعرض للاهتزاز، بعد أن يتم فضّ الشراكة مع أوروبا التي كانت دافعاً في النهضة البريطانية منذ التحاق بريطانيا بأوروبا عام 1973.
وفوق ذلك، هناك التأثير السياسي الذي سيتركه الانفصال، وهو يعني تحقيق المحافظين الجدد أكبر إنجازٍ لهم منذ انتخاب الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان عام 1981، مروراً بجورج بوش الأب والابن، والرئيس الحالي دونالد ترامب، وأهم ما تحمله ثورة المحافظين الجدد على المستوى العالمي هو العودة الى مرحلة ما قبل الليبرالية وحقوق الإنسان. يصل هؤلاء عن طريق صناديق الاقتراع ثم يبدأون بتغيير كل شيء. وعلى الصعيد الأوروبي، ينتظر القارة العجوز أن تواجه خطر التفكك. فهناك اليمين المحافظ الشعبوي من جهة، ومن جهة أخرى وجود قادة أوروبيين لا يملكون خاصية حمل المشروع الأوروبي، وهذا ما تعكسه التصريحات الباهتة والبائسة التي صدرت عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي قال فيها "يمثل بريكست لحظة حرجة ويشكل دليلاً على أن الاتحاد الأوروبي بحاجة الى إعادة تأسيس"، ويقابل ذلك صمت ألماني، وسط تحضيرات لرحيل المستشارة أنجيلا ميركل في نهاية ولايتها الحالية.
إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد، وفقدت فرنسا وألمانيا العزيمة على إحداث ردّ يوقف هجوم الانفصاليين الأوروبيين، فإن مسألة تفكيك الاتحاد الأوروبي باتت على الطريق، وسوف نشهد أكثر من "بريكست" خلال الفترة المقبلة، والبلد المرشح على اللائحة اليوم هو إيطاليا التي يحكمها حزبٌ وصل إلى البرلمان بفضل برنامج يقوم على العداء لأوروبا الموحدة، ويشبه ذلك وضع النمسا أيضاً.
لم تكن بريطانيا عامل إضافة للاتحاد الأوروبي برأي الجيل الأوروبي القديم المؤمن بأوروبا فيدرالية، تمتد من الأطلسي حتى الأورال، على حدّ تعبير الجنرال شارل دوغول، الذي كان له موقف معارض لانضمام بريطانيا إلى أوروبا، واعتبرها على الدوام تسير في الخط الأميركي الذي لن يوفر فرصة لتقويض الاتحاد الأوروبي، كونه يشكل المنافس الأول للولايات المتحدة على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وبالفعل وقفت بريطانيا، على الدوام، في المنعطفات الأساسية الى جانب الولايات المتحدة، وخصوصاً في ما يتعلق بتشكيل الجيش الأوروبي الموحد (يوروكور) الذي طرحه الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران والمستشار الألماني الأسبق هيلموت كول عام 1985، وكذلك في الأزمات الدولية، حيث حالت دون تشكيل سياسة أوروبية خارجية موحدة وفعالة، وقاومت إنشاء عملةٍ موحدة، ولم تنضم إلى اتفاقية ماستريخت عام 1992.
في بروكسل لحظة حزن، وفي لندن ليس هناك حالة فرح، رغم أن "البريكست" حاز على 52 في المائة في استفتاء يونيو/ حزيران عام 2016. والرأي السائد في بريطانيا هو أن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي لم يحقق شيئاً، وهو لا يرضي المتشددين ولا المعتدلين، وفي نظر البعض هو أسوأ من البقاء في الاتحاد الأوروبي، وفي ظلّ انقسام واسع من حوله على جميع المستويات، يبقى رأي البرلمان البريطاني هو الحاسم، فإما أن يقره، أو يتم الذهاب نحو انتخابات مبكرة أو استفتاء جديد.