وفي إطار فسح المجال أمام قوات النظام السوري لارتكاب المزيد من المجازر للضغط على الأهالي في المناطق التي تسيطر المعارضة السورية عليها في حلب، للاستسلام، وزعت روسيا على أعضاء مجلس الأمن مشروع قرار يدعو إلى وقف الأعمال القتالية في حلب باستثناء تنظيمي "الدولة الإسلامية" (داعش) و"جبهة النصرة"، أي أن القتل لن يتوقف لأن موسكو تضع جميع المقاتلين في حلب تحت عباءة "النصرة". كما تعد مصر وإسبانيا ونيوزيلندا مشروع قرار بشأن حلب. ويسبق مشروع القرار الروسي الاجتماع الذي أعلن عنه وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرولت في باريس في 10 ديسمبر/كانون الأول الحالي، والذي سيضم الولايات المتحدة ودولاً أوروبية وعربية "ترفض منطق الحرب الشاملة" في سورية. وقال إيرولت "آن الأوان ليستيقظ المجتمع الدولي لأن المأساة جارية أمام أعيننا".
واستبقت قوات النظام السوري نقاشات مجلس الأمن الدولي، في جلسة خصصت لبحث الوضع الإنساني المأساوي، والآخذ بالتدهور في حلب الشرقية، بقصفٍ مدفعي، صباح أمس الأربعاء، أدى إلى مقتل 45 مدنياً في حي جب القبة المنكوب، كانوا غادروا منازلهم بهدف النزوح نحو مناطق أقل خطراً، حسب ما أفادت مصادر الدفاع المدني السوري وأظهرته مشاهد مصورة. وأكد الدفاع المدني السوري، الذي يُلقب عناصره بـ"أصحاب الخوذ البيضاء"، أن "45 قتيلاً سقطوا صباح اليوم (أمس) في حي جب القبة في حلب القديمة، جراء استهداف العائلات النازحة بقصف مدفعي". وأكد المتحدث باسم الدفاع المدني في حلب، إبراهيم أبو الليث، لـ"العربي الجديد"، أن مناطق شرق حلب باتت "من دون سيارات إسعاف وإطفاء، ورافعات الأنقاض، ونعمل على انتشال المدنيين بالمطارق والمعاول اليدوية، في وقت توقفت فيه سيارات الإسعاف عن العمل بسبب نفاذ الوقود الاحتياطي، واستمرار الحصار، مع خروج 10 سيارات عن العمل سابقاً، بسبب استهدافها بقصف جوي". وناشدت فرق الإنقاذ "جميع المنظمات الإنسانية والإغاثيّة والطبيّة التدخل بشكل سريع من أجل وقف الكارثة الإنسانية التي يعيشها المدنيون في حلب المحاصرة"، إذ أعلنتها مدينة "منكوبة"، كونها "تقبع في حصار خانق تفرضه قوات النظام السوري والمليشيات المتحالفة معه، على 279 ألف نسمة معظمهم من النساء والأطفال منذ 94 يوماً، ورافق هذا الحصار استهداف مباشر للمرافق الميدانية والبنى التحتية التي تستخدم لخدمة المدنيين، ومنها محطات توليد الكهرباء، وضخ المياه، والأفران، والمستشفيات، ومراكز الدفاع المدني".
وبعد يومين من خسارة المعارضة للأحياء الشمالية، التي كانت تشكل تقريباً نصف مساحة نفوذها شرقي حلب، بعد أن تقاسمت كل من الوحدات الكردية من جهة، وقوات النظام والميليشيات المساندة لها من جهة أخرى السيطرة عليها، واصلت قوات النظام محاولات التقدم نحو مناطق المعارضة على جبهة حي الشيخ سعيد جنوبي الأحياء الشرقية. ويبدو أن القوات المهاجمة، تحث الخطى نحو تحقيق المزيد من المكاسب ميدانياً خلال الأسابيع القليلة المقبلة بحسب ما كشف عنه نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، فيما تؤكد المعارضة السورية أن خيار الانسحاب مرفوض من المناطق التي ما زالت تسيطر عليها شرقي حلب. وقال بوغدانوف إن روسيا تأمل في أن يتم حل الوضع في حلب مع نهاية سنة 2016، مشيراً إلى أن هذا "الحل" من وجهة نظر موسكو يتمثل بـ"طرد هؤلاء الإرهابيين بنفس الطريقة التي يجب أن يطردوا بها من الموصل والرقة"، وهو خلطٌ تعمده المسؤول الروسي، للإيحاء بأن معركة حلب، توازي بأهميتها لبلاده، تلك التي تُخاض ضد "داعش" شمالي العراق، وتنشغل وسائل الإعلام العالمية بتغطية تفاصيلها.
وفيما تجاهل بوغدانوف تماماً الواقع الكارثي الدامي، الذي يعيشه سكان حلب المحليين، مع تواصل القصف المُكثف على أحيائهم الشرقية منذ أسبوعين كاملين، فقد نقلت وكالة "رويترز" قبل ذلك بيوم واحد، عن "مسؤول كبير في التحالف العسكري المؤيد لدمشق" أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه "يهدفون إلى طرد المسلحين من حلب قبل تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني". ولا تبدو خيارات المعارضة السورية في أحسن أحوالها، إذ أن الفصائل المدافعة عن شرقي حلب، من هجمات النظام والميليشيات الأجنبية المساندة له، مُحاصرة تماماً مع نحو ربع مليون مدني منذ يوليو/تموز الماضي، من دون خطوط إمداد أو ممرات لدخول المساعدات الإنسانية، لكن مسؤولاً في المعارضة السورية المسلحة أكد، أمس، أن الأخيرة ستواصل القتال للدفاع عن الأحياء التي بقيت تحت سيطرتها حتى الآن في القسم الجنوبي من الأحياء الشرقية في حلب. وقال رئيس المكتب السياسي لـ"تجمع فاسقتم"، زكريا ملاحفجي، إن خيار الانسحاب من حلب "مرفوض"، مؤكداً أن هذا هو "قرار الفصائل. أنا تكلمت معهم بكل ما طرح". وكان رئيس المجلس المحلي لأحياء حلب الشرقية، بريتا الحاج حسن دعا، خلال لقاء مع إيرولت في باريس، إلى تأمين "ممر آمن" للسماح لمئات الآلاف من المدنيين المحاصرين والمعرضين للقصف الذي تنفذه قوات النظام بمغادرة المدينة. وقال "هناك 250 ألف مدني مهددون بالموت. في الأحياء التي سيطرت عليها قوات النظام والمليشيات الإيرانية تجري عمليات إعدام تعسفية وتصفية حسابات، كل الرجال ممن هم تحت سن 40 عاماً تم توقيفهم. النظام يمارس سياسة الأرض المحروقة لذبح حلب ومن ثم احتلالها".
ثلاثة مشاهد من حلب
وإذا كان من الصعوبة إجراء مسح تفصيلي لكافة التطورات المأساوية المتفاقمة، التي عاشتها آلاف الأسر السورية، خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية في مناطق شرقي حلب، فإن ثلاثة مشاهد مصورة، تداولها عشرات الناشطين السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي وبثتها وسائل إعلام مختلفة، تكاد تختصر المشهد الأكثر دموية حتى الآن، خلال حملات النظام العسكرية المتعاقبة على شرقي حلب، والتي مضى على بدء آخرها 15 يوماً، وأدت إلى مقتل وإصابة مئات المدنيين السوريين، ونزوح ما لا يقل عن 50 ألفاً. ويُظهر المشهد الأول، عشرات الجثث المترامية مع أخرى تحولت إلى أشلاءٍ، في حي جب القبة شرقي حلب، جراء قصف مدفعي استهدف نازحين حاولوا الفرار من مناطقهم نحو أخرى غير آمنة إطلاقاً بفعل تواصل القصف عليها، لكنها تعتبر أقل خطرا من المناطق التي فر منها الضحايا. وكان متطوعو الدفاع المدني يعملون على وضع الجثث داخل أكياس بلاستيكية برتقالية اللون. ويظهر في إحدى الصور شاب يجلس على حجر وهو يبكي فيما يمسك هاتفا بيديه وأمامه جثتان تمت تغطية الجزء الأعلى منهما يبدو أن إحداهما تعود لفتاة ترتدي حذاء أحمر اللون.
ويكشف المشهد الثاني حجم الخطورة والمأساة التي تعيشها أحياء جنوبي شرق حلب، إذ إن سيارة تقل أفراداً من فرق الإنقاذ، كانت تشق طريقها نحو منطقة تعرضت للقصف، فباغتها قصف جوي استهدف بناء. وأصيب مدنيون والسيارة جراء تطاير الحجارة. أما المشهد الثالث فهو بعيد عشرات الأمتار فقط، عن المناطق المنكوبة بفعل القصف، وتم التقاطه من قبل ميليشيات أجنبية تقاتل إلى جانب قوات النظام، بعد أن دخلت إلى المناطق التي خسرتها المعارضة. وتبين المشاهد التي التقطها أحد أفراد هذه الميليشيات الأجنبية، بينما كان يجول بسيارته في شارع يربط حي هنانو بحي الحيدرية، مئات الأسر السورية النازحة من مناطقها، تفترش الطرق وتحاول البحث عن مأوى بعد أن هُدمت منازلها بفعل القصف، بينما تُطلق مكبرات الصوت من السيارة التي يتم منها تصوير الفيديو، أناشيد دينية مذهبية.
مصيرٌ مجهول
ووصف رئيس العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة، ستيفن أوبراين الوضع في الشطر الذي تسيطر عليه الفصائل المعارضة في حلب بأنه مقلق، مشيراً إلى انه "ليس هناك مستشفيات عاملة في المنطقة، ومخزون الطعام أوشك على النفاد، ومن المرجح أن يفر آلاف آخرون من منازلهم إذا استمر القتال في الأيام المقبلة". وفضلا عن القصف الذي تتعرض له قوافل النازحين، فإن مصير العائلات التي تنجح بالوصول إلى مناطق النظام، لا يبدو أحسن حظاً، حيث أشارت مصادر في المعارضة إلى توقيف العائلات، واعتقال الشباب أو تصفيتهم. ونقل "مركز حلب الإعلامي" الذي يديره ناشطون من حلب عن مصادر قولها إن قوات النظام أنشأت معسكرين، أحدهما في مدرسة في حي الصاخور، والآخر في منطقة نقارين قرب مطار النيرب العسكري لاحتجاز الشباب النازحين من شرقي حلب. وتقول المصادر إنه يتم احتجاز الشبان الذين فروا مع عائلاتهم من مناطق الاشتباك شرقي حلب، إلى الأحياء التي سيطرت عليها قوات النظام، مشيرة إلى أن الاحتجاز يشمل الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً، حيث تقوم قوات النظام بمصادرة الأوراق الثبوتية لهؤلاء الشبان الذين تجاوز عددهم ألف شخص حتى الآن. وكانت أنباء أخرى تحدثت عن حالات إعدام واختفاء بعض الأهالي الفارين من مناطق الاشتباكات. وفيما ذكر "المرصد السوري لحقوق الانسان" أن المئات من النازحين يتعرضون إلى عمليات اعتقال واستجواب، حيث جرى الإفراج عن بعضهم، فيما لا يزال مصير آخرين مجهولاً، ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية إن ثلاث عائلات اتصلت بهم أكدوا أنهم لم يسمعوا أي خبر عن أقربائهم الذين اعتقلوا في حي مساكن هنانو الأحد الماضي، بعدما استطاعت المليشيات العراقية واللبنانية السيطرة على أجزاء من الحي.