من بحر الصين الجنوبي الواقع بين الفيليبين وفيتنام، إلى جزر الكوريل المتنازع عليها يابانياً وروسياً، وما بينهما من توّتر مفاجئ كاد يُشعل حرباً بين الكوريتين، وتراجع اقتصادي مقلق لبكين، تبدو منطقة شرق آسيا أمام مستقبل مجهول، وسط إيلاء الولايات منطقة جنوب شرق آسيا، الأولوية على حساب الشرق الأوسط.
اعتادت الصين على العمل "بصمتٍ". لا تحبّ حكومتها الضجيج الإعلامي، منذ أن أوقف شاب مجهول الهوية رطل دبابات في ساحة تيانمين في عام 1989. سعت بكين دائماً إلى بسط قوتها من دون أي محاولة لكسب الإعلام الخارجي، كأي نظام شيوعي متأتٍ من تركيبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. غير أنه وفي الفترة الأخيرة، تبدو الصين وكأنها تخلّت عن "حذرها"، في استعداداتها لإحياء الذكرى الـ70 لانتصارها على اليابان في الحرب العالمية الثانية في 3 سبتمبر/أيلول المقبل، وفي توسّعها المستمرّ في جزر سبراتلي، في بحر الصين الجنوبي.
تعلم الصين أن من "الأثمان الباهظة" لأي "مدّ" أميركي في جنوب شرق آسيا، يعتمد على تراجعها هي، خصوصاً أن للأميركيين "منازل" عدة في الجوار، كالفيليبين واليابان وكوريا الجنوبية، أو حلفاء "طبيعيين"، كتايلاند وماليزيا. لذلك عمدت في جزر سبراتلي، إلى ردم أكثر من 12.1 كيلومتراً مربّعاً في السنوات الماضية، في سياق بنائها سبع جزر اصطناعية. وتعمل السلطات الصينية على بناء مدرج للطائرات في إحدى تلك الجزر، فايري كروس ريف، لاستخدامه كمدرج بديل لطائراتها الموجودة على متن حاملة طائرات. وهو ما يثير قلق الأميركيين، كون الأعمال الصينية تجري في إطار الردّ على المدّ الأميركي.
اقرأ أيضاً: الصين تكبّد 8 بورصات عربية 67 مليار دولار
كما ذكر تقرير لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن "الصين حفرت قنوات عميقة، وشيّدت مناطق رسوّ تسمح بمرور سفن أكبر في مواقع الاستصلاح في جزر سبراتلي". ويُشير الفعل الصيني إلى نية "التنين" التمسّك بما يعتبره "مداه الحيوي"، خصوصاً بعد اعتبار السلطات الصينية أن الحراك السياسي في تايوان وهونغ كونغ في العامين الماضيين، موجّه ضدها. ويعتمد الصينيون في حراكهم على عوامل جيوبوليتيكة واقتصادية. في السياسة، كرّس الصينيون التفاهم مع الروس، بعد الاتفاقات الاقتصادية المتلاحقة، والاتفاق الضمني على تقاسم النفوذ في الوسط الآسيوي، فضلاً عن "دعم كوريا الشمالية" في مواجهة جارتها الجنوبية، وخلفها الولايات المتحدة واليابان.
أما عسكرياً، فقد أبدت بكين رغبتها في تنظيم أكبر استعراض عسكري في تاريخها، في 3 سبتمبر، في الذكرى الـ70 للنصر على اليابان في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). ولهذا الغرض، دعت الصين جيوش 10 دول للمشاركة في الاستعراض العسكري، في صورة منقّحة عن استعراض مماثل قام به الروس في 9 مايو/أيار الماضي، بمناسبة "يوم النصر" على النازية الألمانية.
لليابان في شرق آسيا أهمية خاصة، أكثر من كوريا الجنوبية، بالنسبة للصينيين والروس، فاليابان "حليفة" تقليدية للأميركيين، ولا يوجد "كوريا شمالية" ما تهددها من حين إلى آخر، لذلك تعمد روسيا بين الحين والآخر، إلى تعزيز نفوذها في جزر الكوريل، المتنازع عليها مع اليابان. تعلم روسيا أن جزر الكوريل بالغة الأهمية لها استراتيجياً واقتصادياً، كما تدرك أن علاقاتها الجيدة مع اليابان، لا تعني شيئاً أمام علاقة متينة مع الصين، كرّسها اتفاق الـ400 مليار دولار بهدف ضخّ الغاز الروسي إلى الصين، لـ30 عاماً مقبلة.
وقد عمدت الصين أيضاً في 11 أغسطس/آب إلى تخفيض قيمة عملتها اليوان، أمام الدولار الأميركي بقيمة 2 في المائة، ما أدى بالتالي إلى انخفاض مماثل في التعاملات الخارجية بنسبة 2 في المائة أيضاً. وبرّرت الحكومة فعلتها بأن اقتصادها انكمش في صورة مقلقة، بما لا يعكس التطوّر الكبير الذي طرأ على البلاد، مع إقامة مدن تجارية واسعة، ومدّ شبكة اقتصادية هائلة من سور الصين العظيم إلى تخوم القارة الأميركية الجنوبية. غير أن خفض قيمة اليوان، وما تلاه من انخفاض أسعار النفط العالمية، بدأ يثير القلق في صفوف النمور الآسيوية، التي تقتدي بالصين لاقتحام الأسواق العالمية، كالأسواق السنغافورية والفيتنامية والماليزية. ما يعيد شبح أزمة 1998 إلى الواجهة.
لكن كل ذلك لا يهمّ السلطات الصينية، بقدر ما تهتمّ بتداعيات انفجارات مستودعات المواد الكيميائية الهائلة في مدينة تيانجين الساحلية، في 12 أغسطس، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 121 شخصاً وإصابة أكثر من 300 آخرين، ونفوق آلاف الأسماك بفعل التلوّث الكيماوي. وإذا كانت التظاهرات التي شهدتها هونغ كونغ في الماضي، تُعتبر من "تداعيات التدخّل الغربي في الشؤون الصينية"، فإن تظاهرات تيانجين الصغيرة، والمطالبة بالتعويضات الناجمة عن الانفجار، ليست أمراً سهلاً، إذ يكفي أن تقوم الحكومة الصينية بوضع أرانب وسلاحف في مكان الانفجار للدلالة على "عدم وجود إشعاع كيماوي"، بينما كانت تعمد في الماضي إلى تجاهل كل حراك.
في هذه الحمأة، برز الاشتباك الخاطف بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، كجرس إنذار يهدد مستقبل شبه الجزيرة الكورية. ومع أن الطرفين قرّرا الاحتكام إلى الحوار لحلّ المسألة بعد تهديدات متبادلة وصلت إلى حدّ "إعلان الحرب"، إلا أنه لا يُمكن التعويل على استمرار الاستقرار في تلك المنطقة. ومن المؤكد أن ما ستخسره كوريا الجنوبية، يبقى أكبر بكثير مما قد تخسره كوريا الشمالية، في أي حرب، لكون بيونغ يانغ باتت من دون أفق اقتصادي، في ظلّ كارثة إنسانية تخفيها السلطات هناك، أما سيول فعلى مشارف اللحاق بركبِ اليابان والصين، أقلّه في الشرق الآسيوي. لم يعد الشرق الآسيوي في مدار الاستقرار، والأحداث المتلاحقة فيه تُبشرّ ببروز مستقبل غير مستقرّ.
اقرأ أيضاً: السلع الصينية تنافس أوروبا على أسواق تونس