الجنوب التونسي: حرمان وتهميش يغذيان انتفاضة السكان

05 يونيو 2015
تحاول الحكومة بأيادٍ مرتعشة أن تُقنع المحتجين بالتهدئة (الأناضول)
+ الخط -

يعاني الجنوب التونسي من الفقر والبطالة والإهمال والتهميش، على الرغم من تكدّس ثروات طبيعية كبيرة فيه، وهو ما دفع أهالي المنطقة إلى الانتفاضة على واقعهم.

احتجاجات أبناء الجنوب، أدت إلى تعطيل إنتاج الفوسفات، ولم تستعد مناجم الفوسفات في قفصة جنوب غربي تونس، عملها بالكامل إلا منذ أيام قليلة فقط، بعد أن بقيت معطّلة بشكل نسبي وأحياناً كلّي على امتداد السنوات الأربع الماضية. لكن مشكلة الجنوب التونسي، لا تقف عند انتاج الفوسفات، بل تخفي عوامل أخرى، وأسباب تراكمت على امتداد عقود من الزمن.

ولفهم ما يحدث في الجنوب التونسي من حراك خلال السنوات الأخيرة بلغ ذروته هذا العام، ينبغي فهم خارطة الثروات الطبيعية التي تتوفر للبلاد التونسية وتوزيعها على المناطق. إذ تتركز مناجم الفوسفات في محافظة قفصة بين مدن أم العرائس والمظيلّة والرديف، وليس هناك في الشمال إلا منجم قديم في الجريصة من محافظة الكاف شمال غربي البلاد. ويتم تحويل الفوسفات التونسي ذي النوعية العالية دولياً في تونس بشكل كامل تقريباً، ولكنه يتم أيضاً في الجنوب وفي الجهة الشرقية أي في محافظة قابس المقابلة لقفصة على الخريطة التونسية. وقُدّر حجم إنتاج البلاد في السنوات الأربع الأخيرة بـ11 مليون طن مقابل 8,2 ملايين طن أنتجتها في سنة واحدة هي 2010، ويُشغّل قطاع إنتاج وتحويل ونقل الفوسفات حوالى 30 ألف عامل تقريباً.

وتُقدَّر الخسائر المالية للقطاع بحوالى 4000 مليون دينار خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2014، بالإضافة إلى تراجع الترتيب التونسي عالمياً من المرتبة الثالثة فالخامسة فالتاسعة حالياً.

وبالتوازي تتركز أهم آبار البترول في الجنوب أيضاً، حيث تشمل أهمها وهو حقل "البُرمة" في الصحراء في أقصى الجنوب، وكذلك في الصخيرة شرق البلاد بالقرب من قابس، ويجري الحديث عن آبار جديدة في الجنوب الشرقي كذلك، ولكن هذه الآبار لا تُنتج ما يمكن اعتباره ثروة بترولية حقيقية بحسب المسؤولين التونسيين، إذ لا يتجاوز الانتاج 55 ألف برميل يومياً، في مقابل حاجة استهلاكية يومية تُقدّر بحوالى 90 ألف برميل.

غير أن الضبابية التي تحيط بهذا الملف منذ عقود، دفعت التونسيين إلى التساؤل عن حقيقة الثروة البترولية في تونس وعن عقود إنتاجها، في حملة شعبية وسياسية حبست أنفاس الجميع خلال الأسبوع الماضي ولم تتوقف إلى اليوم.

وباختصار الحديث عن ملف الطاقة لا بد من الاشارة إلى مخزون هام للغاز الصخري في شرق الجنوب أيضاً، ولكنه يلقى معارضة كبيرة في استخراجه بسبب آثاره البيئية والجيولوجية المترتبة عنه، وهو ملف لم يُفتح بشكل جدي إلى اليوم.

غير أن ثروات الجنوب لا تقتصر على الثروات الباطنية فقط، فملايين أشجار النخيل والواحات الموزعة بين شرقه وغربه تُدرّ على تونس عائدات هامة من العملة الصعبة سنوياً، بالإضافة إلى الثروات الزراعية الأخرى كالخضار والحبوب التي يتميز بها، تضاف إليها السياحة الصحراوية التي تشهد زيارة ملايين السياح، وهو ما يجعل الجنوب متكافئاً مع الساحل (الغني نسبياً) في مساهمته في دعم الخزينة التونسية على المستوى السياحي.

ولم تفلح هذه الثروات المتكدسة في الجنوب التونسي، في تغيير صورة الفقر والبطالة والحرمان التي يعاني منها الجنوب في شرقه وغربه، وتكفي جولة صغيرة بين مدنه لفهم حالة التردي التي تستمر منذ عقود، والاقتناع بأن عجلة التطور توقفت في هذه المناطق منذ ستينات القرن الماضي.

ويقول بعض الناشطين المحتجين في منطقة قفصة في أحاديث لـ"العربي الجديد"، إن "مدنهم كانت أفضل أيام الاستعمار الفرنسي، وإنهم لم يجنوا شيئاً من العمل والموت في المناجم التي تساقطت صخورها على آبائهم وأجدادهم"، مشيرين إلى أن الفوسفات لم يترك لأجيالهم المقبلة إلا وضعاً بيئياً كارثياً وأمراضاً صدرية مزمنة ومقاهٍ يملؤها الشباب العاطل، على الرغم من أن شركة فوسفات قفصة كانت تُقرض الدولة التونسية في وقت أزماتها، ولكن هذه الدولة لم تتكفل عنا بناء مستشفى للأمراض الصدرية في هذه المنطقة.

اقرأ أيضاً: مناجم الغضب في قفصة التونسية... قنبلة موقوتة

وتعاني الجهة الجنوبية الشرقية بدورها من كارثة بيئية حقيقية منذ سنوات بفعل معامل تحويل الفوسفات وإنتاج الحامض الكبريتي، إذ يتحوّل هواء الواحات إلى هواء أصفر لا يمكن استنشاقه، ما أدى إلى حالات وفاة كثيرة وإلى أمراض مزمنة لم تلتفت إليها الحكومات المتعاقبة في تونس ولم تولها أي عناية جدية حقيقية، وتلوّث خليجها البحري الذي يُعتبر من أغنى البحار في تونس بحكم الثروة السمكية الهائلة، وأدى إلى بطالة بحارة كثيرين وإلى تفتت عائلاتهم، وبقيت هذه المناطق كما يعرفها التونسيون منذ سنوات بدائية تقريباً لا يصلها التطور إلا بشكل بطيء جداً، ما حوّل الأمل إلى يأس واضح، والانتظار إلى غضب لا يمكن السيطرة عليه.

يروي التونسيون نكتة شهيرة تلخّص تعامل السلطة السياسية مع الجنوب، فقد زار في ثمانينات القرن الماضي وزير تونسي مدينة توزر ذات الواحات الخلابة، واجتمع بأهلها وبشّرهم بافتتاح مصنع لتعليب التمور ولكن في مدينة المنستير في الساحل، فطلب منه مواطن في المقابل إنشاء مصنع لتعليب سمك السردين في توزر، وتعجّب الوزير من هذا الطلب بسبب عدم وجود بحر في توزر، فردّ عليه المواطن، وهل هناك واحة في المنستير؟

تُلخّص هذه الحادثة تعامل السلطة التونسية مع الجنوب منذ عقود، فهو فقط مصدر لإثراء الخزينة لا يصل منه شيء كثير لأهلها، وهذا ما أثار مطلباً جديداً في الجنوب بدا غريباً وطنياً، ويقضي بأن يبقى جزء من هذه الثروات حيث يتم إنتاجها.

غير أن غضب الجنوب لم يولد مع الثورة، بل شهدت مدنه ثورات مماثلة قبلها، تم خنقها في مهدها وزُج بمناضليها في السجون، ولعل أهم الأحداث هي التي شهدتها مدن الحوض المنجمي عام 2008، وكانت أولى حلقات التأسيس للثورة التونسية.

وتتخذ الحركة الاحتجاجية في الجنوب التونسي أشكالاً جديدة تعوّل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتُشكّل حملة "أين البترول" الأخيرة أوج الاحتجاجات التي أربكت الحكومة وأفضت إلى دعوة المدير العام للشركة التونسية للأنشطة البترولية ووزراء سابقين أمام قاضي التحقيق، على خلفية شكوى استناداً إلى ما جاء في التقرير السنوي لدائرة المحاسبات حول العقود المبرمة بين الدولة التونسية والشركات الأجنبية العاملة في مجال التنقيب واستخراج النفط والغاز.

وتحاول الحكومة بأيادٍ مرتعشة أن تجيب على كل هذه التساؤلات وأن تُقنع كل المحتجين في كل مكان بالصبر والانتظار، ريثما تتحسن الأحوال.

وأدى هذا الضعف في التواصل مع المحتجين إلى نزول زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي، إلى مدن الجنوب حيث تحظى حركته بشعبية كبيرة، في محاولة لإنقاذ التحالف الحكومي وبقاء حالة الاستقرار السياسية، محذراً من أن ما يحدث حالياً يُهدّد الدولة برمتها، ومعتبراً ما يجري تحركه أطراف سياسية فاشلة في الانتخابات تحاول إسقاط الحكومة.

اقرأ أيضاً: الغنوشي في الجنوب التونسي لإنقاذ التحالف الحكومي

المساهمون