التوتر السياسي بين أعضاء مجلس إدارة الحرب الإسرائيلي وبوادر الحملات الانتخابية تلازم الحرب الإسرائيلية في غزة. يظهر هذا يومياً في تصرفات ومواقف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وكذلك بردة فعل الوزير بني غانتس المنافس الأقوى لنتنياهو في الانتخابات المقبلة، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام الحالية، وكذلك من تصريحات رئيس المعارضة يئير لبيد.
لا يمكن فهم تصرفات ومواقف نتنياهو وإدارته الحرب على غزة، ومنها علاقاته مع الإدارة الأميركية، ومواقفه المتشددة تجاه "اليوم التالي" للحرب على غزة، والتقلبات في تعامله مع قضية الأسرى والمخطوفين، بمعزل عن حالته السياسية الراهنة وتصوره للحملة الانتخابية المقبلة، وأجواء المنافسة الانتخابية، التي ستكون على الأغلب في وقت قريب بعد انتهاء الحرب.
تعثر ملف الأسرى والمخطوفين
مقتل ثلاثة مخطوفين إسرائيليين بنيران الجيش الإسرائيلي في غزة وفّر وقوداً لتصاعد احتجاج أهالي الأسرى والمخطوفين للمطالبة بالتوصل إلى صفقة تبادل جديدة. أوضحت هذه الحادثة أن الجيش معتاد على قتل مدنيين فلسطينيين، ولولا هويتهم الإسرائيلية لما كانت هذه الحادثة لتصل إلى الإعلام الإسرائيلي أصلاً. لهذا السبب، ازدادت مخاوف أهالي الأسرى والمخطوفين على مصير ذويهم في غزة.
فالخطر على حياتهم لا يأتي، وفقاً للأهالي، فقط من "حماس" إنما أيضاً من تصرفات ونهج الجيش الإسرائيلي. ضغط عائلات الأسرى والمخطوفين، وفشل الجيش في تحقيق أهداف جدية في المعركة البرية لتشكيل ضغط حقيقي على حركة حماس، ونصائح من الإدارة الأميركية عبر زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى تل أبيب الأسبوع الماضي، ساهمت معاً في تغيير موقف الحكومة الإسرائيلية الرافض للتفاوض حول صفقة تبادل جديدة، خصوصاً موقف نتنياهو.
التوتر مع بايدن خلاف استراتيجي قد يؤثر على مسار الحرب وعلى مستقبل نتنياهو السياسي
نتنياهو، الذي حاول تهميش ملف الأسرى والمخطوفين خلال الحرب، لا يرغب أن يتحول هذا الملف إلى فشل إضافي يُتهم به شخصياً ويلاحقه في الانتخابات المقبلة. فهو يريد خفض حدة هذا الملف وإبعاد المسؤولية المباشرة عن مصير الرهائن. لذلك اضطر مرة أخرى إلى إعادة الاعتبار لهذا الملف والتعامل معه.
مؤشرات أولية على ذلك جاءت عبر لقاء رئيس الموساد ديفيد برنيع مع رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في النرويج نهاية الأسبوع الماضي، بعد أن رفض نتنياهو طلباً شبيهاً من برنيع للقاء مشابه. وبدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية تبث أجواء متفائلة حول العودة إلى التفاوض مع "حماس"، رغم شروط الحركة المعلنة، وهي أن لا حديث عن تبادل أسرى من دون وقف كامل للحرب على غزة. تعامل نتنياهو مع ملف الأسرى والمخطوفين لا يخلو من الاعتبارات الانتخابية، وخوفاً من أن يتحول هذا الملف إلى عبء ثقيل فيها.
توتر مفيد مع الإدارة الأميركية
ضغط عائلات الأسرى والمخطوفين لم يكن الضغط الوحيد الذي تعرض له نتنياهو في الأسبوع الأخير، إذ تحولت الخلافات مع الإدارة الأميركية إلى علنية وواضحة المعالم، وبدأت بعض الدول الأوروبية الصديقة لإسرائيل بتوجيه انتقادات تجاه الحرب على غزة وتطالب بوقف إطلاق النار.
على الرغم من توافق الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية على أهداف الحرب على غزة، إلا أن هناك خلافات حول التكتيكات وحول الحلول السياسية في "اليوم التالي" للحرب.
فقد أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن، في لقاء جمع تبرعات الأسبوع الماضي، نقاط الخلاف مع نتنياهو بشكل جلي، وقال إن على نتنياهو تغيير تركيبة حكومته المتطرفة فوراً، وهو ما فُهم إسرائيلياً بالتلميح إلى إبعاد نتنياهو من منصب رئيس الوزراء.
وطالب بايدن أيضاً بوضع جدول زمني واضح لتغيير أسلوب الحرب على غزة، وطرح رؤية أولية لـ"اليوم التالي"، بصيغة فضفاضة وشعار حل الدولتين، طبعاً من دون أن يوضح مسار ذلك ولا طبيعة الدولة الفلسطينية وحدودها. كما تحدث الرئيس الأميركي عن ضرورة إشراك السلطة الفلسطينية المجددة في إدارة قطاع غزة.
الرئيس الأميركي يتصرف من منطلق أن إسرائيل والولايات المتحدة قد ضمنتا نتيجة الحرب على غزة، وتأكدتا من أن "حماس" ستزول من المشهد السياسي والنضالي الفلسطيني، وأن أهداف الحرب الإسرائيلية ستُحقق من دون أدنى شك. هذان الاستعلاء وتجاهل أصحاب الأرض الفلسطينيين مشتركان لبايدن ولنتنياهو، بل ولكافة صناع القرار في إسرائيل.
التوتر مع الإدارة الأميركية، خصوصاً مع بايدن، خلاف استراتيجي قد يؤثر على مسار الحرب وعلى مستقبل نتنياهو السياسي. نتنياهو يتصرف من منطلق أن انتهاء الحرب سيكون نقطة بداية الحملة الانتخابية المقبلة، أو ربما قبلها. نتنياهو المتمرس في السياسة الاسرائيلية وقراءة استطلاعات الرأي العام، ومشاعر قواعد اليمين في إسرائيل، مقتنع بأن الصدام مع الإدارة الأميركية حول مسألة "اليوم التالي" للحرب وإقامة دولة فلسطينية قد يكون مفيداً له انتخابياً.
من هنا، بات نتنياهو يعلن كل يوم رفضه لطرح إقامة دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب، وأنه لن يسمح بأن تكون السلطة الفلسطينية شريكة في إدارة قطاع غزة بعد الحرب، ولن يقبل ببقاء أي قوة عسكرية في قطاع غزة يمكن أن تهدد أمن إسرائيل، وأنه لا يخشى الصدام مع الإدارة الأميركية.
بالتوازي، وَكَّل أعوانه بإطلاق الادعاءات والاتهامات عبر وسائل الإعلام بأن غانتس، غريمه الأساسي في الانتخابات المقبلة، يمكن أن يرضخ للمطالب الأميركية ويقبل بإشراك السلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزة وإقامة دولة فلسطينية.
نتنياهو يحاول إعادة الأبعاد السياسية الأيديولوجية إلى لبّ النقاش السياسي في إسرائيل بعد الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويقرأ جيداً مواقف المجتمع الإسرائيلي.
وتوضح كافة استطلاعات الرأي العام أن المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو مواقف أكثر يمينية، ويرفض أي حل سلمي مع الطرف الفلسطيني، ويعارض إقامة دولة فلسطينية. بذلك يعود المجتمع الإسرائيلي إلى عقلية الشعب المحاصر والملاحق، وأن الحلول الأمنية والقوة وحدها هي الضمان الوحيد لأمنه، أي التمسك بذهنية الجدار الحديدي.
نتنياهو سيستغل التوتر والخلاف مع الإدارة الأميركية لمصلحته الانتخابية
نتنياهو سيستغل التوتر والخلاف مع الإدارة الأميركية لمصلحته الانتخابية، وسيجنّدهما لتحريض قواعد اليمين ضد الإدارة الأميركية، وضد مطالبها بإقامة دولة فلسطينية. وسيجنّد القواعد ضد أهالي الأسرى والمخطوفين والادعاء أنهم يريدون إسقاط حكومة اليمين، وكذلك ضد أحزاب المعارضة. سيحاول نتنياهو الاستفادة من مشاعر الخوف والهلع لدى المجتمع الإسرائيلي من كل ما هو عربي وفلسطيني بغية تعزيز حملته الانتخابية.
مهمة نتنياهو غير سهلة
لن تكون مهمة نتنياهو سهلة. من الواضح للجميع أن مضمون الانتخابات المقبلة سيكون حول الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر ومسؤولية نتنياهو وحكومته عن هذا الإخفاق، وعلاقته بسياسة الحكومة في العام الأخير وخطة تقييد القضاء التي أضعفت المجتمع الإسرائيلي والجيش.
هذه محاور إشكالية لنتنياهو وسيكون من الصعب عليه مواجهتها والفرار من نتائج الحرب. سيكون على نتنياهو أيضاً التعامل مع تراجع هيبة إسرائيل وقدرة الردع، والأثمان البشرية الكبيرة للحرب.
ومن المتوقع أن تعود حركات الاحتجاج بشكل قوي بعد الحرب إلى الشارع، وإلى أداء دور سياسي أوضح، ويعود معها عدم الاستقرار السياسي والأمني، وهذه المرة سيكون موقف المؤسسة العسكرية أقوى ضد حكومة نتنياهو.
كما سيضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى مواجهة إسقاطات الحرب الاقتصادية، ومنها ازدياد البطالة، وتراجع النمو الاقتصادي، والحاجة إلى إدخال تغييرات كبيرة في ميزانية الحكومة، بعد أن نجح في تمرير التعديلات في ميزانية عام 2023، وضَمَن حصة أحزاب المتدينين واليمين المتطرف.
في المقابل، ستعمل أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب "المعسكر الرسمي" بقيادة غانتس وغادي أيزنكوت ويئير لبيد، على إبراز الجوانب الأمنية ودور نتنياهو والتحالف الحالي بالإخفاق الكبير.
نتنياهو بدأ فعلاً حملته الانتخابية، ويعمل على صقل مضامينها، مستبقاً نتائج الحرب النهائية. وأبرز هذه المضامين الدفع لحملة انتخابية حول مواضيع سياسية أيديولوجية، مثل إقامة دولة فلسطينية، وصموده أمام ضغوط الإدارة الأميركية. ويسعى نتنياهو إلى تفكيك لغم قضية الأسرى والمخطوفين في غزة وعدم تحوله إلى إخفاق إضافي في سيرته السياسية.
بذلك يسعى نتنياهو لتوسيع مواضيع الحملة الانتخابية كي لا تقتصر وتتركز في الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر ومسؤوليته في ذلك. ما زال نتنياهو يعتقد أنه قادر على كسب النقاش السياسي الأيديولوجي وتجنيد قواعد اليمين في هذا النقاش أمام كافة المنافسين، واستغلال حالة الهلع والخوف وعدم اليقين لصالحة. غير أن كل تلك المخططات تبقى رهن نتائج الحرب على أرض الواقع، وكيف سيكون حال إسرائيل في "اليوم التالي" للحرب.