مولدوفا ـ روسيا: نزاع يتجدّد في الشرق الأوروبي

21 فبراير 2023
مقر القوات الروسية في ترانسنيستريا، سبتمبر 2021 (سيرغي غابون/فرانس برس)
+ الخط -

ارتفعت نبرة التهديدات المتبادلة، أمس الاثنين، بين مولدوفا وروسيا، منذرة بالانزلاق إلى صدام عسكري، وذلك على خلفية مطالبة كيشيناو بـ"إجلاء القوات الروسية من إقليم ترانسنيستريا"، وردّ موسكو بدعوة السلطات المولدوفية إلى "توخّي الحذر" إزاء هذه المطالبة، واصفة الجنود الروس الـ1500 المنتشرين في الإقليم بـ"قوات حفظ السلام".

وقال رئيس الوزراء المولدوفي، دورين ديسيان، المعيّن في 16 فبراير/شباط الحالي، خلفاً لناتاليا غافريليتا، أمس الاثنين، إن "علينا تحقيق أمور أساسية، ومنها نزع السلاح من إقليم ترانسنيستريا وإجلاء القوات الروسية منه".

وهو ما دفع الكرملين إلى الردّ ببيان جاء فيه أن على "سلطات مولدوفا توخي الحذر بشأن التصريحات المتعلقة بإقليم ترانسنيستريا"، منوهاً إلى أن "العلاقات بين البلدين متوترة للغاية، وكيشيناو تنزلق في الهستيريا المعادية لروسيا".


ديسيان: يجب إجلاء القوات الروسية من ترانسنيستريا

وجاء التوتر الأخير، بعد يوم على احتشاد عدة آلاف من المحتجين في كيشيناو، أول من أمس الأحد، لمطالبة الحكومة الجديدة الموالية للغرب بـ"تحمّل فواتير التدفئة بالكامل خلال فصل الشتاء"، في ظل أزمة غلاء تكاليف المعيشة وارتفاع معدل التضخم.

ونظّم الاحتجاج جماعة شُكّلت أخيراً باسم "حركة من أجل الشعب"، ويدعمها أعضاء حزب "شور" الموالي لروسيا، ويشغل ستة مقاعد في المجلس التشريعي المؤلف من 101 مقعد في البرلمان المولدوفي.

ودعا بعض المتظاهرين الذين احتشدوا في كيشيناو إلى استقالة الرئيسة مايا ساندو. وكانت الحكومة المولدوفية قد طلبت من المحكمة الدستورية إعلان "شور" حزباً غير شرعي. وادعى مكتب المدعي العام لمكافحة الفساد أن الاحتجاجات ممولة جزئياً بأموال روسية.

مولدوفا السوفييتية وترانسنيستريا

ومولدوفا كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، وأدى انهياره إلى نشوب حرب أهلية فيها، بين 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1990 و21 يوليو/تموز 1992، انتصرت فيها القوات الانفصالية المدعومة من الروس. ومع أن موسكو وجّهت بإرسال "قوات حفظ سلام" في عام 1995 إلى الإقليم الذي أعلن انفصاله تحت اسم "جمهورية بريدنوستروفيا"، إلا أن المجتمع الدولي ظلّ معترفاً بالسيادة المولدوفية عليه.

وهي الصورة نفسها التي ظهرت في لوغانسك ودونيتسك في أوكرانيا، وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا. ولم يحظَ الانتشار العسكري الروسي في الإقليم المولدوفي برضى كيشيناو، إلا أن جيشها الصغير، الذي بلغ عديده نحو 6500 عسكري وفق إذاعة "أوروبا الحرة" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، غير قادر على دفع القوات الروسية خارج ترانسنيستريا، كما أن عتاده يعود إلى الحقبة السوفييتية.

وتبلغ مساحة الإقليم 4163 كيلومتراً مربعاً، من أصل 33851 كيلومتراً مربعاً هي مساحة مولدوفا. أما عدد سكانه فيصل إلى 361 ألفاً تقريباً، فيما يبلغ عدد سكان مولدوفا نحو 2.6 مليون.

ومولدوفا دولة مغلقة من دون بحر، ومحاطة بأوكرانيا ورومانيا، وتعتمد عليهما في الاستيراد والتصدير البري والبحري. وبين عامي 2016 و2020، انتُخب إيغور دودون رئيساً لمولدوفا، فسعى إلى توثيق العلاقات مع روسيا وإبعاد فكرة انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما سمح بفتح أبواب إقليم ترانسنيستريا له، فضلاً عن تمتين علاقاته بروسيا وبيلاروسيا.

غير أن انتخاب مايا ساندو، الموالية للغرب، في عام 2020، عَكَس المسار، فقدمت طلب انضمام بلادها إلى الاتحاد الأوروبي، الذي منحها صفة "المرشحة للانضمام" في يونيو/حزيران الماضي.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أجرت ساندو مشاورات مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، في نيويورك، لبحث انضمام بلادها إلى الحلف، وذلك في موازاة إبدائها دعماً مطلقاً لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي.

موقف ساندو أثار التوتر السياسي الداخلي في مولدوفا، مع عودة دودون إلى الواجهة ووصفه خطوات الانضمام إلى الأطلسي بـ"المخالفة للدستور الذي ينصّ على حياد مولدوفا". ولكتلة المعارضة الاشتراكية والشيوعية الرئيسية في مولدوفا روابط قوية مع موسكو. وتعتمد مولدوفا على الغاز الروسي.

في المقابل، فإن موقف رئيسة البلاد ينطلق من ثلاثة مرتكزات: الأول، هو سقوط صواريخ أو شظايا صواريخ ناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا، في الأراضي المولدوفية، في أربع مناسبات: أكتوبر وديسمبر 2022 ويناير الماضي وفبراير الحالي. كما عانت البلاد من انقطاع التيار الكهربائي العام الماضي، بالتزامن مع هجمات روسيا على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا.

المرتكز الثاني، هو تحذير الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مراراً، من أن "روسيا لن تتوقف في أوكرانيا"، مبدياً خشيته بشكل خاص على مولدوفا تحديداً، حتى أنه ناقش مع ساندو احتمالات حصول هجوم روسي على بلادها.

وفي كلمته، عبر الفيديو، لمؤتمر ميونخ للأمن الـ59، الذي عُقد بين يومي الجمعة والأحد الماضيين، قال زيلينسكي: "بينما كان الغرب يتفاوض بشأن إمدادات الدبابات إلى كييف، كان الكرملين يفكر في وسائل تخنق مولدوفا. من الواضح أن أوكرانيا لن تكون محطته الأخيرة. سيواصل تحركه… بما في ذلك جميع الدول الأخرى التي كانت في وقت ما جزءاً من الكتلة السوفييتية".


لافروف: الغرب يتطلع لتكون مولدوفا أوكرانيا التالية

المرتكز الثالث، هو حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لقناة "روسيا 24" التلفزيونية ووكالة "سبوتنيك" الروسية، في 2 فبراير الحالي، حين قال إن "الغرب يتطلع الآن لتكون مولدوفا أوكرانيا التالية، ورئيستها مايا ساندو مستعدة لأي شيء تقريباً".

وأضاف: "أولاً وقبل كل شيء، لأنهم تمكنوا (الغرب) من وضع رئيسة على رأس الدولة (مولدوفا) بأساليب محددة تماماً بعيداً عن الديمقراطية الحرة، وهي حريصة ومتحمسة للانضمام إلى الحلف الأطلسي، ولديها الجنسية الرومانية، ومستعدة للاتحاد مع رومانيا وبشكل عام مستعدة لأي شيء تقريباً".

كما أشار لافروف يومها إلى أن الغرب يريد تحويل جورجيا إلى مصدر "إزعاج آخر لروسيا". وشدّد على أنه "لا يساورني شك في رغبة تحويل جورجيا إلى مصدر إزعاج آخر، وإعادة الوضع إلى أوقات (الرئيس الجورجي الأسبق ميخائيل) ساكاشفيلي العدوانية"، حين غزت روسيا جورجيا في أغسطس/آب 2008.

وردت ساندو، خلال مناسبة تعيين ريسيان رئيساً للحكومة بالقول: "روسيا تخطط لاستخدام مخربين أجانب"، للإطاحة بحكومتها المؤيدة للاتحاد الأوروبي. وأوضحت: "روسيا كانت تخطط لاستخدام مخربين لهم خبرة عسكرية، متخفين بملابس مدنية، للقيام بأعمال عنف وشن هجمات على مؤسسات الدولة وأخذ رهائن".

وذكرت أن "المؤامرة شملت وصول مواطنين من روسيا ومونتينيغرو وبيلاروسيا وصربيا إلى مولدوفا". وأضافت: "مخطط المؤامرة كان يشمل تنظيم احتجاجات من قبل ما يسمى بالمعارضة بهدف قلب النظام الدستوري".

وحثت ساندو برلمان مولدوفا على تبنّي قوانين تمنح جهاز المخابرات والأمن في البلاد والنيابة العامة: "الوسائل الضرورية لمواجهة التهديدات للأمن القومي بشكل أكثر فعالية". وشدّدت على أن "محاولات الكرملين لنشر العنف في بلادنا ستفشل".

سيناريوهات الحرب 

أما في حال نشوب نزاع بين موسكو وكيشيناو، فإن التوغّل البري الروسي دونه عقبات. ويعود الأمر في الأساس، إلى أن "الممرّ الإجباري" لروسيا لربط الطريق من روستوف الروسية بمولدوفا، والدفع بقوات برية، يحتاج إلى شنّ القوات الروسية هجوماً جديداً لاستعادة مدينة خيرسون، ثم إسقاط ميكولايف وأوديسا في أوكرانيا، للوصول إلى ترانسنيستريا خلال مدة زمنية قصيرة، لأن صمود القوات الروسية والانفصاليين في الإقليم، قد لا يكون مضموناً.

كما أن الهجوم البحري انطلاقاً من شبه جزيرة القرم الأوكرانية، التي ضمّتها روسيا بالقوة في عام 2014، يبدو صعباً، لأن قطعات البحرية الروسية تحتاج إلى تأمين البرّ الساحلي الأوكراني قبل الهجوم. حتى أن زيلينسكي أبدى، أمس الاثنين، في مقابلة مع صحيفة "فيلت" الألمانية دعمه لـ"كل ما تحتاج إليه مولدوفا".

أما في حال قرر الروس استهداف مولدوفا بالصواريخ البالستية بعيدة المدى، فإن في ذلك مخاطرة كبرى في حال سقوط أحد الصواريخ في رومانيا المجاورة لمولدوفا. بوخارست عضوة في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، وسقوط صاروخ فيها، قد يؤدي إلى تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الأطلسي.

وتنصّ هذه المادة على أنه "يتفق الأطراف، على أن أي هجوم، أو عدوان مسلح، ضد طرف منهم، أو عدة أطراف، في أوروبا أو أميركا الشمالية، يعتبر عدواناً عليهم جميعاً، وبناء عليه، فإنهم متفقون على أنه، في حالة وقوع مثل هذا العدوان المسلح، فإن على كل طرف منهم... تقديم المساندة... بما في ذلك استخدام قوة السلاح، التي يرى أنها لازمة لإعادة الأمن، إلى منطقة شمال الأطلسي، وتأكيده".

وما يعزز المخاوف من أن يؤدي الصدام الروسي ـ المولدوفي إلى التدخل المباشر لحلف الأطلسي، هو تحوّل رومانيا إلى معقل حصين لقوات أطلسية، خصوصاً أميركية وبريطانية وفرنسية.

المساهمون