أعادت نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات المحلية التي جرت في تونس نهاية العام الماضي، مسألة شعبية الرئيس قيس سعيد، الذي بنى كامل مساره السياسي على فكرة تمثيله لغالبية الشعب، واختزالها في شعار "الشعب يريد"، بينما قاطع التونسيون كل المحطات الهامة التي طرحها عليهم خلال السنتين الأخيرتين.
وبعد انقلابه على الدستور في 25 يوليو/تموز 2021، اختبر سعيد شعبيته في أكثر من مناسبة، في الاستشارة الإلكترونية في 2022 (حوالي 540 ألف تونسي فقط من جمهور لا يقل عن ستة ملايين) ثم في الاستفتاء على الدستور الذي كتبه بنفسه (حوالي 30 بالمائة)، ثم في الانتخابات التشريعية (نظمت في أواخر 2022 وبداية 2023 وكانت النسبة 4.11 بالمائة) ثم في الاستشارية التربوية (حوالي 580 ألفا فقط) وأخيرا في الانتخابات المحلية (11.6 بالمائة)، وكان مصيرها كلها مقاطعة واسعة من التونسيين وعدم اهتمام مطلقاً.
ولكن سعيد لا يكترث كثيرا لهذه الأرقام ويحاول تجاهلها، ويبحث لها عن مبررات، وقد علّق على المشاركة الضعيفة في المحلية معتبرا أنه "لا بد من وقت ليسترجع التونسيون ثقتهم في من يتولون أمرهم، لأن الديمقراطية نيابية لا بد منها، وأنه يفضل تقديم نتائج وأرقام حقيقية على أن يتم نشر نتائج مزيفة تفوق الـ90 بالمائة".
ورد الأمين العام لحزب العمل والإنجاز، عبد اللطيف المكي، على كلام سعيد في حديث لـ"العربي الجديد" بالقول إن "التصريح بأن نسب الإقبال في الانتخابات المحلية أفضل من المحطات السابقة مردود"، مشيرا إلى أن "هناك شكلا من العنصرية في اعتبار أصوات المشاركين هذه المرة أفضل من باقي الناخبين، وهذه الطريقة هي تبرير لنظام استبدادي وهي ليست بجديدة فقد تعودنا على التبريرات مع ما يطرأ من معطيات واقعية، وبدل استخلاص الدروس يتم التمادي والهروب إلى الأمام".
وبيّن المكي أن "جميع الانتخابات التي انتظمت قبل انقلاب قيس سعيد شهد العالم أنها نزيهة وشفافة، ولا نعلم لماذا يتهمونها اليوم ويفضّلون عليها نسبا أقل منها بكثير" حسب تعبيره.
وأضاف المكي أن "هذه النسبة الضعيفة والهزيلة للمشاركة في الانتخابات هي المرة الثالثة التي يصاب بها المشروع السياسي لقيس سعيد، وهي تأكيد على أن الموقف من نظامه عميق وقوي لدى الشعب التونسي، خاصة أن هذه الانتخابات تهم روح مشروع قيس سعيد الدستوري وهو البناء القاعدي، وبالتالي فإن النتيجة دالة عدديا ونوعيا ويجب أن يستخلص هذا الدرس ويترك التونسيين يحددون نظامهم السياسي بحرية وتشاور دون أن يفرض عليهم".
واعتبر المكي أن "هذه النتيجة تضع مسؤولية كبيرة على عاتق الطبقة السياسية بأن تتدبر حلا لوضع البلاد، وعلى المعارضة أن تقوم بدورها من نقد بناء وتوحد صفوفها وتقدم بديلا للمستقبل".
من جهته، اعتبر المحلل السياسي، محمد القوماني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التراجع المستمر في نسب الإقبال في المحطات السياسية والانتخابية منذ بداية تنفيذ روزنامة قيس سعيد الأحادية، يمكن تسميته بالانتفاضة التونسية الصامتة، فقد عبّر التونسيون دون مشاورات بينهم بشأن موقف مشترك يرتقي إلى الانتفاضة".
وأشار القوماني إلى أن "الحياة السياسية شبه ميتة، إن لم تكن ميتة بالكامل، والاهتمام بالسياسة لم يعد بالمنسوب الذي سبق وعرفناه خلال العشرية المنقضية، ولكن هذا التواطؤ الضمني على عدم المشاركة هو دليل على أنه موقف صائب ونابع من تقدير شعبي صحيح للأداء السياسي".
ولفت إلى أن "25 يوليو والصيغة الانقلابية على المؤسسات كانا دون إنجازات فعلية، والكثير من الحالات السياسية التي حصلت فيها تحولات بعملية انقلابية كانت فيها شرعية الإنجازات تعطي شرعية للحكم، ولكننا إزاء عملية سطو على السلطة لم تأت الإنجازات لتبررها، و25 يوليو فتح آمالا كثيرة تحت عناوين الإصلاح والمراجعة ومقاومة الفساد وما سمي بالمسار التصحيحي، ولكن لا شيء من ذلك حصل، وأغلب الملفات التي فتحها قيس سعيد، وإن كان بعضها مشروعاً كمقاومة الاحتكار والدفاع عن المؤسسات العمومية والتسريع في بعض الملفات التي ظلت في رفوف المحاكم، لكنها لم تقدم نتائج للمواطن في حياته اليومية".
وبيّن أن "مشروع قيس سعيد هو احتكار إرادة الشعب والتعبير باسمه تحت عنوان "الشعب يريد" ولكن الشعب أجابه بأنه يريد ما لا يريده قيس سعيد، لأن الشعب يريد أن تتحسن حياته الاجتماعية والاقتصادية فعليا، وأن تنخفض الأسعار وتتوفر فرص الشغل وأن ينعم التونسيون بخيرات بلادهم، ولكن العكس هو الحاصل".
وبيّن أن "هذا الإقبال الضعيف على المشاركة هو مقاطعة لم تشتغل عليها جهات سياسية، ولكنها عبّرت عن سحب ثقة غير مباشر وسحب وكالة من الشرعية التي أُعطيت لقيس سعيد في انتخابات 2019 وأيضا في 25 يوليو"، مؤكدا أن "تعليق قيس سعيد على نتائج التشريعية والمحلية هروب للأمام".
وقال إن سعيد "لا يريد الاعتراف بالحقيقة، وبالمقاييس السياسية لا يمكن القول إن 11 بالمائة هي أفضل من 40 و50 بالمائة في الانتخابات ما قبل الانقلاب، لأن عهد الـ90 بالمائة انقضى بعد الثورة".
وتابع أن "الانتفاضة الشعبية الصامتة هي سحب ثقة من مشروع قيس سعيد، ولكنها أيضا تعبير عن انتفاضة في وجه المشهد السياسي برمته"، مضيفا أن "ترذيل الأحزاب والشخصيات وتقديم السياسة كأنها مغانم والصراع على الكراسي بعيدا عن مصالح الناس، وأيضا فشل الطبقة السياسية في تحقيق أهداف الثورة والمحافظة عليها وخيبة الأمل في عشرية الديمقراطية التي غلب فيها السياسي على الاقتصادي والاجتماعي، وفشلها في تقديم نمط جديد للحكم، كل هذا سهّل ما حصل يوم 25 يوليو 2021، وأدى إلى أن التونسيين لم يعودوا يهتمون بالمشهد السياسي برمته ولم تعد لهم ثقة بأي مؤسسة".
وأوضح القوماني أن "قيس سعيد الذي جاء ليصحح التمثيلية الحقيقية للشعب ويزعم أن البرلمانات السابقة لم تكن معبرة عنه، جاء ببرلمانات ينتخب فيها بعض النواب بالحد الأدنى من الأصوات وهناك أحيانا من ينجح بصفة آلية وهناك في الانتخابات المحلية من لم يجمع سوى 35 صوتا ونجح".