فنلندا في حلف شمال الأطلسي... تغيير قواعد اللعبة مع روسيا

31 مارس 2023
يأتي هذا وسط تأزم واضح فرضته ظروف الحرب في أوكرانيا (Getty)
+ الخط -

مع إعلان البرلمان التركي موافقته، في وقت متأخر من مساء أمس الخميس، على عضوية فنلندا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما تقتضي بروتوكولات العضوية بقبول الدول الـ30 الأعضاء عضوية الدول المرشحة، تتحول الأنظار إلى التداعيات التي ستخلفها العضوية على مجمل العلاقة الغربية الروسية المتوترة.

وحافظت فنلندا على "توازن" في علاقتها بين القطبين الغربي والشرقي، طيلة عقود الحرب الباردة حتى عام 1992، لكنها اختارت مع جارتها السويد، التي تخلت عن قرنين من سياسة الحياد، توقيع بروتوكول الانضمام إلى "الأطلسي" في الخامس من يوليو/ تموز العام الماضي، بعد نحو شهرين من طلب العضوية، على إثر الغزو الروسي لأوكرانيا.

وخضعت عضوية الأطلسي من بلدين عضوين في الاتحاد الأوروبي لكثير من السجال والأخذ والرد، الخارجي والداخلي، لكن في نهاية المطاف استطاع الساسة إقناع الشارع المتردد بقبول الانضمام إلى "الناتو".

على الجانب الآخر من الحدود الطويلة مع روسيا بأكثر من 1300 كيلومتر، تبدو الأمور أكثر من مجرد منغصات، فموسكو التي أبقت خيوط العلاقة الجيدة مع هلسنكي خلال 20 عاماً ماضية، يضعها توسع "الأطلسي" أمام حقبة جديدة في العلاقة مع جيرانها الشماليين، حيث ترتبط فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك وأيسلندا في تجمع ما يسمى "مجموعة دول الشمال". وانقلبت علاقة "حسن الجوار" بعد غزو أوكرانيا، وخصوصاً لناحية تسارع قبول الرأي العام الانخراط أكثر في جهود الغرب لدعم أوكرانيا في مقاومتها الغزو الروسي، في مقابل التضييق على دخول وخروج المواطنين الروس إلى أراضيهم.

تغيير في قواعد اللعبة

على مستوى الجغرافيا السياسية (جيوسياسي)، تقلب العضوية الفنلندية قواعد اللعبة التي سادت منذ فترة، فقد قدم الروس مع غزو أوكرانيا سردية ثابتة عن أن "الأطلسي" تعهد بعدم التوسع أبعد من شرق ألمانيا. وفي تبرير متكرر للخطاب الإعلامي وشبه الرسمي، بدت الحرب الأوكرانية وكأنها من أجل "إعادة الأمور" إلى وضعها "الطبيعي"، أي إلى ما قبل توسع الناتو.

ومع هذه العضوية، تصبح روسيا على تماس بري إضافي مع الأطلسي، بحدودها البرية مع فنلندا، وتوسع نطاق سيطرة الحلف في مياه البلطيق. وذلك يعكس رغبة الكرملين في لجم الحلف الغربي.

وتزيد عضوية فنلندا (والسويد المتوقعة) في "الناتو" من أمنها، كما هو الحال مع باقي دول إسكندنافيا. لكن يرى البعض أنّه على المدى الطويل سيواجه الغربيون والروس زيادة المعضلة الأمنية والتوترات في منطقة بحر البلطيق.

وفي هذا السياق، يرى الأستاذ المشارك في قسم الاستراتيجيا ودراسات الحرب في أكاديمية الدفاع الدنماركية يورغن ستون، من خلال دراسة نشرها مؤخراً "المركز الدنماركي للسياسات الدولية" (دييس)، أنّ عضوية البلدين (فنلندا والسويد) في الناتو "ستخلق معضلة أمنية لعموم منطقة البلطيق". ويتوقع ستون اشتداد حرارة منطقة البلطيق "إذا ما جرى تحريك وحدات عسكرية للأمام أكثر، أو أنّ الحدود الفنلندية - الروسية شهدت تحركات غير منسقة بين الجانبين".

ويبدو عموماً أنّ "انعدام الثقة"، وتزايد الحديث عن نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا، كخطوة تصعيدية من موسكو، من المحتمل أنّ تساهم في زيادة التوتر، وخصوصاً أنّ ما يشبه طوقاً ممتداً من مياه البلطيق، وصولاً إلى القطب الشمالي، بات يضيق على روسيا.

وقبل سنوات قليلة فقط، وخصوصاً بعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014 وتوتر علاقة الطرفين (روسيا والغرب)، كانت منطقة البلطيق أشبه بمنطقة عمليات روسية دون مضايقة جادة من الأطلسي ودول إسكندنافيا، إلا من محاولات دنماركية سويدية لمنع "انتهاك" روسيا مجاليهما الجوي والبحري.

بعد فرض العقوبات ووقف استقبال الغاز الروسي مع بدء غزو أوكرانيا، تحول البلطيق إلى ما يشبه "بحر الناتو"، كما تطلق عليه الصحافة والتحليلات. فروسيا المنشغلة في مستنقع أوكرانيا تشاهد كثافة البناء العسكري الغربي في البلطيق، بل وزيادة وتيرة انتشاره في دوله الصغيرة.

وتشير الكثير من التقارير الصحافية والعسكرية إلى أنّ جيب كالينينغراد الروسي على البلطيق، بات هدفاً آخر لتجسس ومراقبة سفن وبحرية الأطلسي، لاحتوائه على صواريخ "إسكندر" التي يبلغ مداها 500 كيلومتر، وقادرة على إصابة الدنمارك والسويد بسهولة.

 لكن، وفي ظل علاقة متوترة كهذه وغياب الثقة، تضيف خطوة توسع الأطلسي إلى حدود طويلة مع فنلندا، التي جرب معها الاتحاد السوفييتي الماضي غزواً (سميت حرب الشتاء 1939)، وانتهى بنتائج كارثية للجيش الأحمر، عقدة جديدة في وجه طموحات روسيا لإبعاد "الأطلسي" عن حدودها.

ومنذ يونيو/ حزيران 2022، تغيرت تماماً العلاقة بين روسيا وجيرانها الشماليين في إسكندنافيا، الذين يتفقون مع تصنيف "الأطلسي" لروسيا بأنها "التهديد الأكثر أهمية لأمن الحلفاء"، واصفين إياها بأنها تسعى إلى "إقامة مناطق نفوذ والسيطرة المباشرة عن طريق الإكراه والتخريب والعدوان والضم".

في أوائل صيف العام الماضي، ومع تزايد الحديث عن انضمام فنلندا والسويد إلى "الناتو"، حاولت روسيا ثنيهما، من خلال استعراض قوة على الحدود غير البعيدة عن العاصمة هلسنكي، والتلميح أحياناً بأن الأراضي السويدية قد تكون "هدفاً مشروعاً للجيش الروسي"، بيد أن العضوية الرسمية الآن لهلسنكي ستجعل موسكو تعيد الحسابات من زاوية أن الحلف الأطلسي ملزم بالتحرك والدفاع عن الدول الأعضاء.

وعلى الرغم من أن أمين عام "الأطلسي" ينس ستولتنبرغ يكرر أن "الحلف دفاعي" و"لا يستهدف الاعتداء أو معاداة روسيا"، فقد استبق وزير دفاع روسيا سيرغي شويغو، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، خطوة قبول فنلندا في الحلف، من خلال "تشكيل مجموعة قوة عسكرية مماثلة في شمال غرب روسيا"، وهو الأمر الذي أكده رئيس الأركان فاليري غيراسيموف بتشديده على إنشاء "فليق عسكري جديد في كاريليا"، المتاخمة لفنلندا، وواحدة أخرى في منطقة لينينغراد، على أساس الدفاع عن سانت بطرسبرغ.

ماذا تضيف العضوية لحلف الناتو؟

أما على المستوى الغربي، فإن عضوية فنلندا (والسويد) ستتطلب تخصيص موازنات دفاعية هائلة، ليس فقط لأن الحدود مع روسيا ستكون 1340 كيلومتراً، بل لتوفير حماية واضحة لمنطقة بحر البلطيق، وهو ما باشر فعلياً الجانب الأميركي، مدعوماً من بريطانيا والدنمارك، بالزج بالمزيد من القوة العسكرية عبر موانئ دنماركية معلنة، مثل آرهوس (وسط غرب) وإيسرغ أقصى الغرب على بحر الشمال. وفي المجمل، سيضيف ذلك على "الأطلسي" نطاقاً عملياتياً واسعاً إذا ما أُخذ في الاعتبار النرويج من الشمال وصولاً إلى بورنهولم الدنماركية في البلطيق.

يمكن القول إنّ انضمام فنلندا واندماجها في النظام الدفاعي الغربي سيضيف قوة له. فلدى هلسنكي نظام عسكري قادر على تجنيد فوري لـ280 ألف عسكري خلال زمن الحرب، هذا إلى جانب أن نحو 800 ألف مدربون على السلاح، وتضم البلاد ملاجئ قادرة على حماية جميع السكان، حتى من الضربات النووية.

على مستوى العمليات، بحسب المتخصصين الدفاعيين في الدول الإسكندنافية، تملك فنلندا ميزة كبيرة من خلال شبكة طرق قادرة على تهديد خطوط السكك الحديدة الروسية، باتجاه مورمانسك في شبه جزيرة كولا، التي تضم ثلث القوة النووية الروسية.

وتنظر روسيا بقلق عميق لتوسع الوجود العسكري الغربي في تلك المنطقة التي تضم قاعدة رئيسية للغواصات النووية، حيث لا تبعد عن الفنلنديين سوى نحو 180 كيلومتراً، انطلاقاً من نيدن الحدودية إلى قاعدة زابادنايا ليتسا. أضف إلى ذلك أن عضوية السويد ستمنح الأطلسي ميزة استخدام ميناء غوتنبرغ في المثلث الثلاثي مع فنلندا والنرويج، بحيث يهدد منطقة مورمانسك النووية الروسية.

وبحسب الاستطلاعات التي نشرت مطلع شهر مارس/ آذار الحالي، يعبر نحو 80 في المائة من الشارع الفنلندي عن تأييده هذه للعضوية.

وبرز في هلسنكي دور مميز لعبته رئيسة وزراء البلد سانا مارين، في إقناع الشارع بضرورة أن تتحول فنلندا إلى الحلف الدفاعي الغربي، وسط تأزم واضح فرضته ظروف الحرب في أوكرانيا. ولعب رئيس البلاد سولي نينيستو دوراً كبيراً على الصعيد الداخلي، وخصوصاً أنه كان على علاقة طيبة بالساسة الروس، إضافة إلى دوره الدبلوماسي مع أنقرة لتمرير الموافقة على العضوية.