انتخابات البرلمان الأوروبي: اليمين المتطرف نحو اختراق واسع

26 مايو 2024
مناصرون لـ"البديل" خلال مهرجان انتخابي في دريسدن، مايو الحالي (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- أحزاب اليمين المتشدد والشعبوية في أوروبا استفادت من الأزمات الوطنية والأوروبية لكسب دعم الناخبين، مقدمة نفسها كبدائل للأحزاب التقليدية ومستغلة الاستياء العام.
- استطلاعات الرأي تشير إلى أن هذه الأحزاب قد تفوز في انتخابات البرلمان الأوروبي في تسع دول، ما يعكس تحولاً كبيراً في المشهد السياسي الأوروبي.
- التقدم المتوقع لأحزاب اليمين المتشدد والشعبوية يمكن أن يغير تحالفات البرلمان الأوروبي ويعزز نفوذها، مما يشكل تحدياً للأحزاب التقليدية ويغير السياسات الأوروبية.

لم يكن في حسبان أكثر المتشائمين قبل 2012 أن تصبح أوروبا في غضون عشر سنوات على أعتاب تحوّل أحزاب التطرف اليميني والشعبوي، وبعضها يوصف بـ"شبه فاشي"، إلى جزء من الحياة التشريعية جراء انتخابات البرلمان الأوروبي ومنظومات الحكم وطنياً. من فنلندا شمالاً، حيث بات اليمين القومي المتشدد في حزب الفنلنديين الحقيقيين، مروراً بهولندا وتقدم يمين ألمانيا المتشدد، إلى إيطاليا وإسبانيا، يبدو أن أوروبا أمام موجة مد أخرى لليمين المتطرف والشعبويين، مقابل انحسار وتراجع تُسجله معسكرات الوسطية الأوروبية. ومن المستوى الوطني ينتقل هذا المد إلى مستوى قاري، حيث تفيد الاستطلاعات بتقدم لهذا المعسكر في انتخابات البرلمان الأوروبي القادم (بين 6 و9 يونيو/حزيران). إذ لا تزال استطلاعات نوايا تصويت الناخبين في القارة تمنح اليمين القومي المتشدد وشعبويي القارة ما لم يحققوه منذ أن توسعت موجة هذا التيار خلال العقد ونصف العقد الماضي.

وبينما تعاني أحزاب يمين ويسار الوسط من نزيف الشعبية الانتخابية فإن أحزاباً مثل "التجمع الوطني" في فرنسا بزعامة مارين لوبان و"الحرية" الهولندي بزعامة غيرت فيلدرز يفركون أياديهم فرحاً لنية التصويت لهم في انتخابات البرلمان الأوروبي وبعضهم سيحصل على نحو ثلث أصوات الناخبين. بل إن حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، "النهضة"، وسطي الطابع، وبرغم كل مساعيه لسحب البساط من تحت أقدام اليمين القومي المتشدد، بإظهار تشدد أكثر، لا تمنحه الاستطلاعات أكثر من 14 في المائة.

القاسم المشترك لمعسكر التطرف اليميني الأوروبي هو استغلاله لمجموعة أزمات وطنية وأوروبية

وعلى الرغم من كل محاولات محاصرة تقدم شعبية "البديل لأجل ألمانيا"، بما في ذلك التحذيرات الأمنية حيال تطرفه وخطورة الأعضاء المشكوك بصلاتهم بالنازية الجديدة، يواصل الحزب صعوده، بتوقع حصوله على الأقل على نحو 17 في المائة من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي وتعطيه بعض الاستطلاعات ليس أقل من 20 في المائة، وذلك تقدم كبير مقارنة بما حصل عليه في 2019، بتصويت نحو 11 في المائة لمرشحيه.

يُعد هذا الصعود متسارعاً، مقارنة بالفترة الزمنية التي تأسس وعمل فيها "البديل" منذ 2013، حيث لم تؤثر في شعبيته مجموعة من الفضائح والصلات النازية ببعض قياداته وضبطهم يمجدون نازية بلدهم في ثلاثينيات القرن الماضي. هذا إلى جانب تقدم المعسكر في الدنمارك والسويد، وصولاً إلى إسبانيا وإيطاليا وبقية جنوب وشرق القارة.

دغدغة مشاعر الناخبين في انتخابات البرلمان الأوروبي

القاسم المشترك لمعسكر التطرف اليميني الأوروبي، بعد أن خفف من لهجته عن "الخروج" من الاتحاد الأوروبي، هو استغلاله لمجموعة أزمات وطنية وأوروبية، من ارتفاع تكلفة المعيشة إلى أزمات السكن، وقلق من قضايا الهجرة والقطاع الصحي والتحول الأخضر (بما حمله من احتجاجات قطاع المزارعين خلال الأشهر الماضية). ومنحته الأزمات ذخيرة إضافية لرفع مستوى الخطاب القومي ودغدغة مشاعر الناخبين في انتخابات البرلمان الأوروبي وتقديم أحزابهم وكتلهم كبدائل للإدارات السياسية التقليدية في القارة الأوروبية.
وتقدم تجربة حزب إخوة إيطاليا (فراتيلي ديتاليا)، بزعامة رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، منذ ترؤسها له في 2014، نموذجاً لعمق التغيرات الحاصلة على مستوى القارة الأوروبية خلال السنوات الماضية. فرحلة "إخوة إيطاليا" خلال السنوات العشر الأخيرة تظهر براعة تلون اليمين المتشدد والشعبويين الأوروبيين. فقبل تحقيق الحزب نتيجة جيدة في انتخابات سبتمبر/أيلول 2022 كانت ميلوني نفسها تعتبر الاتحاد الأوروبي بمثابة إثم كبير، متوعدة بالخروج من هذا "التجمع البيروقراطي" غير المفيد لبلدها وللقارة.
وفي آخر انتخابات لبرلمان أوروبا في 2019 شارك حزبها في تكتل يضم إخوتها من بقية أحزاب قومية متطرفة في برلمان القارة، مثل "ديمقراطيي السويد" و"القانون والعدالة" البولندي و"فوكس" الإسباني وتحالف "فلامس بيلانغ" البلجيكي. وتعاون الحزب، مثل أحزاب وقوى اليمين المتشدد والشعبويين في أوروبا، مع مستشار دونالد ترامب السابق، ستيف بانون، لخلق تيار أوروبي ينسق تطرفه وشعبويته بالتركيز على نظرية المؤامرة والمهاجرين واللاجئين.

في ظل أزمات متتالية في روما، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي وغياب انتظام الحكم، جاءت اللحظة الحاسمة لانتهازية معسكر اليمين والشعبويين لإحكام القبضة على الحكم من خلال الائتلاف الذي يجمع "إخوة إيطاليا" بالحزب الشقيق في التطرف "ليغا" (الرابطة، الذي انطلق بداية كرابطة الشمال) بزعامة ماتيو سالفيني، والشعبويين في "النجوم الخمس".

الإيطاليون الذين تراجعت نسبة تصويتهم في الانتخابات العامة في 2022 بنحو 10 في المائة (إلى نحو 63 في المائة)، وسط انقسام وتراجع يسار الوسط، سئموا على ما يبدو من عدم استقرار السياسة في بلدهم. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية مر عليها 77 حكومة، دون أن يعني التصويت الاحتجاجي لحزب إخوة إيطاليا شبه الفاشي أنه رغبة شعبية بحكم فاشي.

وإذا صمدت الاستطلاعات الإيطالية بشأن نوايا التصويت في انتخابات البرلمان الأوروبي بتحقيق حزب إخوة إيطاليا لنسبة حوالي 27 في المائة، متجاوزاً الحزب التاريخي والعريق "الاجتماعي الديمقراطي" بنحو سبع نقاط، حيث يتوقع له الحصول على 20 في المائة، فإن ميلوني تكون قد حققت جزءا من مرادها السياسي. فخلال فترة عام ونصف العام غيرت تكتيكاتها السياسية والخطابية حيال "بيروقراطيي بروكسل"، من رغبة بالخروج من الاتحاد إلى استغلال اكتساح يميني متشدد في بعض الساحات الأوروبية، لأجل تغيير قوالب التحالفات في الهيئة التشريعية الأوروبية في البرلمان الأوروبي المقبل، ولتعزيز نفوذ هذا المعسكر على مستوى قرارات بروكسل.

أهداف مثابرة اليمين المتشدد

لا يخفي معسكر اليمين المتشدد في أوروبا، رغبته في التحول إلى لاعب حاسم بعد انتخابات البرلمان الأوروبي سواء على مستوى التشريع أو سياسات بروكسل في السنوات الخمس المقبلة. هذه المثابرة التي تسفر عما يشبه تطبيع وجود أحزاب التطرف القومي في السلطة أو نفوذ في توليفتها، كما جرى في هولندا أخيراً مع نفوذ حزب الحرية بزعامة فيلدرز، تنتقل هذه الأيام إلى مستوى أوسع في عموم القارة العجوز.

أظهرت استطلاعات رأي أن أحزاب اليمين المتشدد والشعبوية في طريقها لأن تصبح الفائزة في انتخابات البرلمان الأوروبي في تسع دول 

الانتقال من مجرد أحزاب يمينية متشددة وهامشية صغيرة إلى مستوى من التأثير الذي يفرض على الأحزاب التقليدية التاريخية التعاطي معها، على الرغم من وعودها السابقة باستمرار عزلها وتهميشها، سيفرض على الأوروبيين، على الأقل خلال الدورة التشريعية المقبلة للبرلمان الأوروبي، أخذ إمكانية تحول كتلة التحالف اليميني الشعبوي إلى مناكفات تنزع منهم الاحتكار التقليدي لكتلتي يمين ويسار الوسط للمناصب والسياسات. فالدخول القوي إلى البرلمان الأوروبي لا يعني أن معسكر التشدد القومي بات أقل نقداً للاتحاد الأوروبي، بل يعتبرها فرصة يستغلها لتعزيز نفوذه وتأثيره على مسار القارة المستقبلي.

الفوز في تسع دول

ووفقاً لاستطلاعات الرأي وتحليلات على مستويات وطنية وأوروبية، ومن ضمنها تحليل انتخابي أجراه مركز أبحاث المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن أحزاب اليمين المتشدد والشعبوية في طريقها لأن تصبح الفائزة في انتخابات البرلمان الأوروبي في تسع دول، بما في ذلك إيطاليا والنمسا وسلوفاكيا وهولندا وفرنسا. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يصبحوا ثاني أو ثالث أكبر حزب في فنلندا والبرتغال وألمانيا وست دول أخرى.

وأظهر في السياق استطلاع لمؤسسة إيفوب لمصلحة "أوست فرانس" بداية مايو/أيار الحالي عن انتشار المشاعر السلبية الفرنسية تجاه الاتحاد الأوروبي. ويشعر غالبية مؤيدي اليمين واليمين المتشدد بحالة قلق من أوضاع أوروبا بواقع 53 في المائة، ويعبر 34 في المائة من ناخبي حزب الاستعادة (ريكونكيت) بالغضب، بينما تصل النسبة في التجمع الوطني (حزب مارين لوبان) إلى 23 في المائة.

ويمكن ملاحظة كيف أن "الحرية" الهولندي بزعامة فيلدرز، المعادي لسياسات الهجرة الأوروبية والناقد الدائم للإسلام وللمسلمين، يقفز قفزات لم تكن في الحسبان. ومع تحقيقه فوزاً كبيراً في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فإن استطلاعات الرأي بشأن انتخابات البرلمان الأوروبي تمنحه ليس أقل من 16 في المائة، متقدماً على أحزاب أخرى عريقة وكبيرة. بل بدأ الحديث، منتصف مايو الحالي، عن إمكانية تحول "الحرية" إلى جزء من منظومة الحكم في هولندا، على طريقة "الفنلنديين الحقيقيين" في فنلندا، و"إخوة إيطاليا" و"ليغا" في إيطاليا، وبتأييد نحو نصف ناخبي هولندا، وفقاً لاستطلاع نشر نتائجه تلفزيون "آر تي أل" الهولندي أخيراً.

وبحسب تحليلات مراكز بحثية أوروبية، بما في ذلك المعهد الدنماركي للدراسات الدولية "دييس"، والمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن هذا يعني أنها المرة الأولى التي سيكون فيها معسكر المحافظين القوميين وجماعات يمينية متشددة، مثل كتلة المحافظين والإصلاحيين (ECR) وكتلة الهوية والديمقراطية (ID)، أكبر الفائزين، لكسر احتكار الكتل التقليدية للمناصب والبرامج السياسية للاتحاد الأوروبي، هذا بالطبع إذا حشدوا الأغلبية واختاروا توحيد صفوفهم.

فاليوم يُعد تكتل المحافظين التقليديين، بمن فيهم "الديمقراطيين المسيحيين"، أكبر كتلة في البرلمان الأوروبي مكونة من 179 نائباً، تحت مسمى كتلة الأحزاب الشعبية "إي بي بي". وتليها كتلة ائتلاف التقدميين والاجتماعيين الديمقراطيين بـ141 نائباً. وإذا أضيف إلى الكتلتين التكتل الليبرالي "تجديد أوروبا" بـ101 نائب، مضافاً إليهم اليسار والخضر بـ71 نائباً و31 نائباً من أقصى اليسار، فإن هذا يظهر أن الأغلبية من أصل 705 مقاعد (تمثل سكان الدول الأوروبية المقدرين بنحو 450 مليوناً، والمقاعد بحسب عدد سكان كل دولة عضو) هي المستهدفة من معسكرات اليمين القومي المتشدد والشعبويين، الذين لديهم كتلتان من 67 نائباً من "الإصلاحيين المحافظين" (إي سي آر) و58 من "الهوية والديمقراطية" (آي دي) لأجل ترجمة تقدمهم في استطلاعات نية التصويت لهم في انتخابات البرلمان الأوروبي لكسر تكتلهم احتكار أكبر ثلاث كتل برلمانية للتشريعات والمناصب، وليكون تجمعهم قادراً على وضع بصمة في سياسات بروكسل عبر برلمان ستراسبورغ بعد التاسع من يونيو المقبل.

المساهمون