الحراك الطلابي: ما بين محفزات موضوعية وقيود سلطوية وقصور ذاتي

26 مايو 2024
من مشاهد تضامن الشباب المغربي مع فلسطين وقطاع غزة (فاضل سينا/فرانس برس)
+ الخط -

شهدت مدنٌ غربيةٌ عدّةٌ، مع الأسبوع الثاني للعدوان على قطاع غزّة، مظاهراتٍ تضامنيةً مع الشعب الفلسطيني، خصوصًا في نيويورك وباريس، كانت الكتل الشبابية القوام الرئيس للفاعليات، ومع استمرار جرائم الاحتلال، بادرت مجموعاتٌ طلابيةٌ إلى الاعتصام في الجامعات، ما خلق مرتكزًا للاحتجاج، سمح باستمراره وتطور مطالبه، وضمنها إنهاء الدعمين الاقتصادي والعسكري لإسرائيل، ومطالبة الجامعات إلغاء كلّ أشكال التعاون الأكاديمي والاقتصادي مع مؤسسات الاحتلال.

عمليًا وُجدت ساحاتٌ طلابيةٌ مقاومةٌ، شكَّل المحتجون فيها جبهةً مناوئةً للحرب، ومساندةً لحقّ الفلسطينيين في التحرر، في مقابل جبهةٍ تدعم الاحتلال، تشمل الإدارة الأميركية، وأغلب قيادات الجامعات البيروقراطية، ورأس المال الممول لها، وعمد هؤلاء، بما يمثلونه من بنىً سلطويةٍ، إلى صدّ الحراك بما في ذلك الحوار مع المحتجين، ومناقشة مطالبهم، والوعد بتحقيق بعضها.

كما تكرر التهديد بإجراءاتٍ تأديبيةٍ، والتحريض على الاعتصامات وفضها بقوّةٍ مفرطةٍ، والقبض على أساتذةٍ ساندوا حقّ الطلاب في التعبير. وكان مشهد هجوم شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا (بدأ في 18 إبريل/نيسان) نقطة تحولٍ، شعر فيها الطلاب بالتحدي، ما أسهم في تبلور موقفٍ تضامنيٍ بين صفوفهم، رافضين اعتقال زملائهم، أو حجب حقّهم في التعبير.

يمكن الإشارة هنا إلى حالتي تونس ومصر، التي تراجعت فيهما قوى التغيير، بعد صراعٍ صعد الثورة المضادة إلى الحكم، ما أثر على الحراك الطلابي

ضمن مظاهر التضامن؛ تكررت الاعتصامات تكتيكًا مقاومًا، في ما يزيد عن 80 جامعةٍ، وتحولت إلى مرتكزٍ للحراك، يعلن المحتجين فيها تضامنهم مع سكان قطاع غزّة، ويتحدون حكوماتهم، وامتد الحراك إلى مؤسساتٍ تعليميةٍ في أوروبا، وآسيا، وأستراليا، وواجه المعتصمين ببسالةٍ التهديد والتحريض، ومحاولات الفض، وفاوضوا قيادات الجامعات حول مطالبهم، واستطاع بعضهم إحراز نجاحاتٍ فعليةٍ.

جاء المشهد كموجةٍ جديدةٍ للحركة الاجتماعية، ضمن سماتها تجاوز القطرية، والانتماءات السياسة والعرقية والثقافية، والتقاء مكوناتها متعددة الجذور حول لائحة مطالب مشتركةٍ، وضمنيًا؛ عارض الحراك، بوجوده وشعاراته، مخرجات النظام العالمي، الذي تقوده دولٌ كبرى، بين سياساتها دعم دولة الاحتلال.

أوّلًا: واقع الحراك الطلابي عربيًا

تفاعل الشباب العربي مع تباعات العدوان من خلال أنماط التضامن الرمزي، منها الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحركة المقاطعة الاقتصادية، لكن كان النشاط في الجامعات محدودًا، حتّى في البلدان التي شهدت حراكًا قويًا ومبكرًا في الميادين (بدايةً من 13 أكتوبر/تشرين الأول)، في مقدمتها الأردن والمغرب واليمن ولبنان والعراق.

كان لموجة الاحتجاج العالمية تأثيرٌ مستجدٌ، شجع على استنهاض جامعاتٍ عربيةٍ، خلال شهري إبريل/نيسان ومايو/أيّار، إذ تجدد حراك جامعة بيرزيت، بمشاركة أعضاءٍ من هيئة التدريس، كما دعا الاتّحاد العام لطلبة تونس إلى فاعلياتٍ خارج الجامعة وداخلها، وشهدت جامعة الزيتونة ومنوبة وكلية العلوم الإنسانية بجامعة 9 إفريل، بجانب بعض المعاهد فاعليات تضامنية. وفي لبنان تظاهر طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، وفرعا جامعة بيروت العربية، كما شارك مع الطلاب أعضاءٌ من هيئة التدريس.

كذلك؛ تجدد حراك المغاربة، إذ شهد محيط السفارة الأميركية تظاهرةً طلابيةً (2 مايو)، كما دعت جهاتٌ عدّةٌ إلى الحركة في الجامعات، منها جمعية التجديد الطلابية، التي أعلنت أسبوعًا من الفاعليات، مؤكدةً على أن نداءها استمرارٌ لحراكٍ سابق. إذ كان الاتّحاد الوطني لطلبة المغرب قد دعا في 18 أكتوبر إلى تظاهراتٍ، وتعطيل الدراسة لمدّة يومٍ واحد (بعد الهجوم على مستشفى المعمداني)، وشهدت حينها جامعات طنجة والرباط وأكادير مشاركةً كبيرةً في الفاعليات. رغم ذلك؛ وجه عبد الإله ابن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، في منتصف مايو نقدًا للحركة الطلابية، بما فيها أنشطة الحركة الإسلامية التي ينتمي إليها.

أيضًا؛ دعا الملتقى الطلابي لدعم المقاومة في الأردن إلى التظاهر، وقاد مسيرةً طلابيةً في وسط عمان، وتأسس الملتقى بوصفه جبهة عمل تنسيقي مع بداية العدوان في أكتوبر 2023، وساهم، بالتنسيق مع القوى السياسية، في دعوة الطلاب إلى المشاركة في الاحتجاجات، التي قُبض على أثرها على طلابٍ عدّةٍ.

ضمن مظاهر التضامن؛ تكررت الاعتصامات تكتيكًا مقاومًا، في ما يزيد عن 80 جامعةٍ، وتحولت إلى مرتكزٍ للحراك، يعلن المحتجين فيها تضامنهم مع سكان قطاع غزّة

في مصر؛ كرر طلاب الجامعة الأميركية المطالبة بمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل، كما جمعوا سابقًا تواقيع على عريضةٍ، تتضمن مطالبهم، وشارك معهم أعضاءٌ من هيئة التدريس. لكن؛ باستثناء حالة التعبئة، التي قادتها السلطة منتصف أكتوبر، لم تشهد الجامعات المصرية فاعلياتٍ مستقلةً ذات مشاركةٍ واسعةٍ، وأُجهضت محاولات خلق حراكٍ طلابيٍ مستقلٍ، وقُبض على طالبين من مجموعة "طلاب من أجل فلسطين"، التي تأسست في مايو الحالي، لتزيد قائمة "سجناء التضامن مع غزّة"، الذين قُبض على معظمهم بعد مشاركتهم في تظاهرات 20 أكتوبر، وهي الفاعلية التى دعت إليها السلطة، مستهدفةً دعم موقفها، ومواجهة ضغوطٍ أميركيةٍ، وإبراز أنّ هناك تفويضًا شعبيًا يؤيد قراراتها. لعب التظاهر هنا، دورًا وظيفيًا لدعم النظام داخليًا وخارجيًا، بما يعزز مكانته ومركزه مع أطرافٍ دوليةٍ يفاوضها، وخرجت التظاهرات بدعوةٍ فوقيةٍ، وجرت تحت مظلته، وبقيادة التابعين له.

في مشهدٍ مشابهٍ؛ خرجت في العراق، مرتين، تظاهراتٍ بتوجيهٍ حكوميٍ، الأولى في 18 أكتوبر، بمشاركة بعض الموظفين، وطلاب الجامعات والمدارس. الثانية في مايو، تضمنت وقفاتٍ تضامنيةً لطلابٍ وكوادر إداريةٍ في الجامعة، بدعوةٍ من وزير التعليم العالي، ضمن المشاركة في حراك الجامعات العالمي.

ثانيًا: الحراك الطلابي ما بين المحفزات الموضوعية والتحديات الذاتية والقيود السلطوية

مع الحراك الطلابي المتزايد، الذي تمثّل جامعات أوروبا وأميركا مركزًا له، تطرح أسئلةٌ حول أسباب ضعف الحراك الطلابي عربيًا، رغم المحفزات الموضوعية التالية:

أوّلًا: عوامل ارتباطٍ بالقضية الفلسطينية، بحكم الانتماء إلى الإقليم، والتاريخ المشترك في مواجهة المحتل. ثانيًا: تأثر بلدان المنطقة بالحرب تأثرًا مباشرًا، منها دول الجوار. ثالثًا: توفر عنصر المعرفة بجرائم العدوان، التي تستدعي غضبًا أخلاقيًا ليس من مصوغاته أن تكون عربيًا. رابعًا: وجود مؤشراتٍ لاتجاهات رأيٍ عامٍ يدين العدوان، ويطالب باتخاذ مواقف تضامنيةٍ، واعتبار فئات واسعةٍ إسرائيل مهددًا رئيسيًا، فضلًا عن تأييد المقاومة، وهو ما يشكل وعيًا وانحيازًا.

لا تقتصر عناصر المقارنة على مشهدين، حراكٌ في دولٍ غربيةٍ، مقابل خفوتٍ عربيٍ، لكن أيضًا، تستدعي ميراث الحركة الطلابية المرتبطة بالقضايا القومية، من محطاتها احتجاجاتٍ تزامنت مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وغزو العراق والهجوم على لبنان، والعدوان على قطاع غزّة 2008، فضلًا عن تحركاتٍ أخرى، خلال الثورات، كانت فيها القضية الفلسطينية مقياسًا لوطنية النظم، ونزاهة الحركات السياسة وثوريتها.

من أجل فهم مشهد خفوت الحراك عربيًا، لا بدّ من طرح شروط ومتطلبات وجوده، بما فيها أولًا: قدرة الفاعلين في المجال العام على الحشد، والعمل الجبهوي، وكذلك امتلاك رؤيةٍ واضحةٍ، وشعاراتٍ مناسبةٍ وجاذبةٍ للفئات المستهدفة. وثانيًا: مستوى المشاركة السياسية، وعلاقتها بالتشابك بين الظروف الموضوعية والذاتية، على فرص الحراك الطلابي. وثالثًا: بناء السلطة وتوجهاتها وطبيعتها، وحدود القيود التي تضعها، ودرجة التسامح مع الحراك، ومدى حاجتها إليه.

يساعد فهم هذه العوامل المتشابكة في تحليل الحراك الطلابي، وأيضًا في تحديد مستقبله، استنادًا إلى تجارب سابقةٍ، وأخرى حاليةٍ، إلى جانب قياس مدى توافر متطلبات تبلور حراكٍ طلابيٍّ، وأسباب خفوته حاليًا:

أولًا: يعتمد بناء مجموعات العمل الطلابي، غالبًا، على الكوادر الحزبية الوسيطة، التي تنقل الخبرات وتتابع الأنشطة، ومع تسرب هؤلاء من المجال العام، أصبح دورها شاغرًا، وواجهت المجموعات الطلابية (المحدودة في ظلّ ضعف المشاركة السياسة) فجوةً بينها وبين أجيالٍ سابقةٍ، وفجوةً أكبر مع القيادات الحزبية.

كان لموجة الاحتجاج العالمية تأثيرٌ مستجدٌ، شجع على استنهاض جامعاتٍ عربيةٍ، خلال شهري إبريل/نيسان ومايو/أيّار

ثانيًا: يحتاج النشاط في الجامعة وجود مجموعاتٍ طلابيةٍ تبلور وتقود اتجاهات الرأي العام، وتعبر عنه، سواء في القضايا النقابية (الخاصّة بالطلاب)، أو القضايا السياسية، تاريخيًا اتصلت الحركات الطلابية بالأحزاب، والاتّحادات الطلابية، إذا ما توافرت ظروفٌ تجعلها تمثيلًا حقيقيًا للطلاب، ومع غلبة وجود نظمٍ سلطويةٍ، أصبحت الاتّحادات مفرغةً من مضمونها، وأسهم ضعف المشاركة في تقليص جماعات التمثيل السياسي في الجامعة. يمكن الإشارة هنا إلى حالتي تونس ومصر، التي تراجعت فيهما قوى التغيير، بعد صراعٍ صعد الثورة المضادة إلى الحكم، ما أثر على الحراك الطلابي، رغم محافظة جامعات تونس على فاعليةٍ محدودةٍ. إلى جانب الأحزاب؛ للمجتمع المدني دورٌ مهمٌ، حفز بعضها في المغرب (وتونس أيضًا) الحراك الطلابي، لرفض أشكال التطبيع في المجال الأكاديمي، وهو مطلبٌ عالميٌ مشتركٌ.

ثالثًا: هناك علاقة تفاعلٍ بين الحراك خارج الجامعات وداخلها، لكن ليست ميكانيكيةٍ، فكلّ ساحةٍ من ساحات النضال تتطلّب شروط تشكلها، ويمكن أن تلعب الأنماط التنسيقية بين القوى السياسة، وحتّى مجموعاتٍ من أفرادٍ، دورًا في بلورة حراكٍ في الميادين أو النقابات، لكن احتمال عجزها عن القيام بنشاطٍ منظّمٍ في الجامعة يظلّ قائمًا، إذا افتقدت أو ضعفت صلاتها مع الطلاب، بما يحدث قطيعةً، وحينها لن يتحقق شرط وجود مجموعاتٍ مبادرةٍ تتولى الدعوة، وتنظيم الحراك الجامعي. مثالٌ على ذلك، بدأت في شوارع الأردن والمغرب فاعلياتٌ تضامنيةٌ قويةٌ مع الشعب الفلسطيني، لكن لم يبرز حراكٌ مماثلٌ في الجامعات، فضلًا عن ضعف الاهتمام بالجامعات، ومحدودية الكوادر الطلابية في قيادة الأشكال الجبهوية.

رابعًا: هناك قنواتٌ متصلةٌ بين مكونات الحركات الاجتماعية، ومنها الحركات النقابية، والشبابية والنسوية، وحين تنشط، تعزز الحراك الطلابي، والعكس صحيحٌ أيضًا في حالة الانحسار، الذي يعبر عن تباطؤ حركة المجتمع، سواء بقيودٍ مفروضةٍ عليه، أو بضعف مكونات المجال العام وشخوصه. هنا من المهم الإشارة إلى موقفي الاتّحاد المغربي للشغل، والاتّحاد العام للشغل في تونس، وتضامنهما مع الاتّحاد العام لنقابات عمال فلسطين، الذي قصف مقره في قطاع غزّة. وإلى حضور القضية الفلسطينية في فاعليات عيد العمال، التي أعلنت خلالها قياداتٌ نقابيةٌ في دولٍ عدّةٍ، موقفها الرافض للحرب.

إلى جانب ذلك؛ بين الحركة النقابية والطلابية عوامل اتصالٍ، إذ يلتقيان في مساحاتٍ مشتركةٍ، كما حدث في الآونة الأخيرة، حين وافقت نقابات العاملين في جامعة كاليفورنيا (48 ألفًا) على الإضراب، تضامنًا مع الحراك الطلابي في الولاية.

خامسًا: لا ينتج الحراك الطلابي نتيجةً فوريةً لوقائع جارية، حتّى لو كانت الأحدث الاستثنائية محفزًا للحراك، لكن ضمن شروطه أيضًا توفر الجهد، ودرجةٍ من التنظيم تحتاج إلى المثابرة، وهذا يتصل بالظروف الذاتية للفاعلين في المجال العام، بما في ذلك امتلاك صلاتٍ بالطلاب، وتكوين مجموعة نشاطٍ وتدريبها، والقدرة على بناء جبهاتٍ تمثّل النواة الأولى للاحتجاج، وهذا يحتاج إلى قدرةٍ على الحوار والاتّفاق على نقاط عملٍ مشتركةٍ، وخطابٍ جاذبٍ، يساهم في تمتين البنى التنظيمية، وتسهيل العمل الجبهوي.

إن لم يكن هناك رؤيةٌ وبرنامجٌ مشتركٌ تتبلور منه خططٌ طويلةٌ نسبيًا، فسيعني ذلك الارتكاز على العفوية، وهو ما يخصم من فرص تشكل حراكٍ حقيقيٍ، يستلزم بناؤه عملًا تراكميًا ووعيًا، وتجاوز التحديات، فغياب القدرة على تنفيذ أنشطةٍ بعينها، لا ينفى ما سواها، كما أنّ من المهمّ وضع حسابات التكلفة ونتائج النشاط، لبناء حركةٍ تستطيع الصمود.

وإلى جانب الظروف الذاتية للفاعلين بالمجال العام، تحدّ السلطوية من فرص أيّ حراكٍ مستقلٍ، إذ تجهض التحالفات والمبادرات. لكن في الوقت ذاته، الركون إلى أنّ تقييد العمل السياسي في ظلال السلطوية هو السبب الوحيد لضعف الحراك، يعنى التسليم بالوضع الحالي، وعدم تجاوزه، أو حتّى التغافل عن أسبابٍ أخرى تضعف الحراك، وتهمش إمكانيات استثمارها وجني ثمارها لاحقًا، كما أنّ بقاء السلطوية ليس أبديًا، ولن يكون، بحكم نضال الشعوب، ورغبتها في العيش بكرامةٍ وحريةٍ.

المساهمون