إثيوبيا... الحرب الدائمة

03 سبتمبر 2022
تتسبب المعارك بمزيد من عمليات النزوح (إدواردو سوتيراس/فرانس برس)
+ الخط -

في الوقت الذي كان فيه الإثيوبيون والمجتمع الدولي يترقبون بدء مفاوضات سلام بين الحكومة الإثيوبية برئاسة أبي أحمد، و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" المسيطرة على إقليم تيغراي بشمال البلاد، فوجئ الجميع باندلاع الحرب مجدداً في 24 أغسطس/ آب الماضي، وتوسعها سريعاً ودخول إريتريا مجدداً على الخط، في ما يشبه العودة إلى نقطة الصفر في هذا الصراع العسكري الذي كان قد اندلع للمرة الأولى في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020 وتوقف بهدنة في مارس/ آذار الماضي.

وتشير المعارك المتجددة، التي يحمّل كل طرف الطرف الآخر المسؤولية عن استئنافها، إلى مدى هشاشة الوضع على الأرض، وغياب الثقة بين طرفي الصراع، إذ انهارت الهدنة قبل أن تحقق أي هدف غير وقف إطلاق النار، ولا سيما على الصعيد الإنساني الكارثي، كما تصفه مختلف المنظمات الدولية.

ويبقى السؤال اليوم عن مدى القدرة على تسوية الأزمة بين الطرفين وجمعهما على طاولة تفاوض واحدة، في ظلّ غياب أي وساطات دولية حقيقية تضغط عليهما من أجل إنهاء نزاعهما، وكذلك في ظل تباعد مواقفها وتمترس كل جانب خلف شروطه، قبل الجلوس مع الطرف الآخر، فضلاً عن تجذّر العداء بينهما.

وفشل الحل التفاوضي يعني حتماً صراعاً شاملاً، في ظل مناصبة عرقيات أخرى غير "جبهة تحرير تيغراي" العداء لأبي أحمد، وهي تنتظر الفرصة لمواجهته، كما ظهر في جولة العنف السابقة. وهذا كله لن تكون تأثيراته محصورة بالداخل الإثيوبي، وإنما قد تصل إلى جميع الدول المجاورة وعلى رأسها السودان الذي يترقب ما يحدث الآن بعدما باتت المواجهات قرب حدوده مجدداً، وبعدما دفعت المواجهات السابقة آلاف اللاجئين الإثيوبيين إليه.

يؤكد دخول إريتريا مجدداً في خط المواجهة، أن المعارك المتجددة ليست مناوشات عابرة

إريتريا مجدداً في قلب معارك تيغراي

في الأثناء، يؤكد دخول إريتريا مجدداً في خط المواجهة، أن المعارك المتجددة ليست مناوشات عابرة، وأن الصراع خفت لكن جميع أسبابه ما زالت قائمة. وأعلن المتمردون في تيغراي، أول من أمس الخميس، أن الجيشين الإثيوبي والإريتري شنا، فجر الخميس، انطلاقاً من أراضي إريتريا، هجوماً "مشتركاً" و"حرباً شاملة" على إقليم تيغراي الواقع في شمال إثيوبيا.

وأفادت قيادة جبهة تيغراي"، في بيان بأنه "بعدما نشرت (إثيوبيا) قوة عسكرية ضخمة في إريتريا، شنّت هجوماً مشتركاً مع قوات إريتريا الغازية" على شمال تيغراي المحاذي لإريتريا. ولم ترد الحكومة الإثيوبية في الحال على استفسارات بهذا الشأن. واكتفت أديس أبابا بإصدار بيان أكدت فيه أن الجيش يبقى في "موقع دفاعي" من أجل "صد الهجمات التي يشنها (المتمردون) في كل الاتجاهات".

وقال موظف إغاثة في بلدة شيري في تيغراي لوكالة "رويترز"، إن شهوداً أفادوا بوقوع قصف مدفعي عنيف من إريتريا على تيغراي حول بلدة شيرارو، الأربعاء وفي الساعات الأولى من صباح الخميس.

وأكد زعيم مليشيات في مدينة جوندار في إقليم أمهرة، المتحالف مع الحكومة الإثيوبية، نقلاً عن مصادر على الخطوط الأمامية للقتال، وقوع "قصف عنيف من جانبنا" استهدف خنادق جبهة تحرير شعب تيغراي حول بلدة شيرارو".

وبعد هدنة استمرت خمسة أشهر، تجدد القتال في 24 أغسطس/ آب الماضي في محيط أقصى جنوب شرق تيغراي بين سلطات الإقليم والجيش الاتحادي، مع تبادل الطرفين الاتهامات بإشعال المواجهات في النزاع المستمر منذ نوفمبر 2020.

وسبق أن ساندت قوات إريتريا خلال المرحلة الأولى من النزاع الجيش الإثيوبي الذي أرسله رئيس الوزراء أبي أحمد من أجل طرد سلطات الإقليم لاتهام المتمردين بشن هجمات على قواعد عسكرية. واتُّهم الجنود الإريتريون بارتكاب تجاوزات وانتهاكات.

وسلطات تيغراي منبثقة عن "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي حكمت إثيوبيا حوالى ثلاثين عاماً، حتى وصول أبي أحمد إلى السلطة في 2018. ودار نزاع دام بين 1998 و2000 بين إثيوبيا ودولة إريتريا الفتية التي كانت محافظة إثيوبية قبل أن تستقل عام 1993، حول مناطق متنازع عليها على طول الحدود مع تيغراي. وأثار هذا النزاع عداء عميقاً بين أسمرة و"جبهة تحرير شعب تيغراي".

وبعدما نفى الأمر لفترة طويلة، أقر أبي أحمد في مارس 2021، بوجود قوات إريترية في تيغراي، مؤكداً أنها على وشك الرحيل. ويؤكد المتمردون أن الجيش الإثيوبي المدعوم من القوات الإقليمية ومن مليشيات محلية، قام الخميس الماضي كما فعل الأربعاء "بمحاولات متكررة لتحقيق اختراق" في جنوب تيغراي في المنطقة المجاورة لأمهرة.

المعارك توسعت إلى ثلاث جبهات في الجنوب والغرب والشمال

وبعد استئناف المعارك في 24 أغسطس، شن المتمردون "هجوماً مضاداً" في جنوب تيغراي، وتمكنوا من التقدم حوالى خمسين كيلومتراً حتى الإثنين الماضي في منطقة أمهرة، بحسب مصادر متطابقة تحدثت لوكالة "فرانس برس"، وأعلنوا الأربعاء أن القوات الإثيوبية والإريترية تشن هجوماً في منطقة وولكيت في غرب تيغراي.

ويعني هذا أن المعارك التي كانت تتركز بالأساس حول أقصى جنوب شرق تيغراي، توسعت إلى ثلاث جبهات، هي الجنوب والغرب باتجاه الحدود مع السودان، وشمال المنطقة الآن. أيضاً، تعرضت ميكيلي، عاصمة تيغراي، ليل الثلاثاء الأربعاء، لغارة جوية هي الثانية منذ معاودة المعارك.

تحضيرات لاستئناف المعارك في تيغراي

ولم يكن استئناف القتال حدثاً عرضياً ووليد لحظته، بل كانت التوترات بين الجانبين تتصاعد على مدى الأسابيع الماضية، وبدا أن الطرفين كانا دائماً على أهبة الاستعداد لاستئناف الحرب والتحضير لها، فقد استغل كلا الجانبين حالة الهدوء لإعادة تنظيم الصفوف على ما يبدو.

وكان الجيش الإثيوبي يحشد قواته بجنوب تيغراي خلال الأسابيع الماضية، بحسب "جبهة تيغراي" وشهود عيان، بينما لم تتوقف التهديدات للجبهة على الرغم من إعلان الحكومة الاتحادية استعدادها لبدء مفاوضات.

في المقابل، أدت عمليات التجنيد الجماعي التي قامت بها "جبهة تحرير شعب تيغراي" على مدى الأشهر الماضية، إلى تضخم صفوفها، فضلاً عن أنها خصصت الكثير من مواردها للتدريب وإعادة التسليح، على الرغم من نفيها عمليات التجنيد الإجباري.

كما أنها استولت على ترسانة ضخمة من الأسلحة من الجيش الفيدرالي خلال جولة القتال السابقة، وهناك حديث عن أنها اشترت أيضاً أسلحة جديدة من الخارج، بحسب ما تذكر هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، في مقال نشر على موقعها الإلكتروني أول من أمس الخميس.

أبي أحمد أرسل في وقت سابق مسؤولين كباراً في حكومته للقاء مسؤولين في "جبهة تحرير شعب تيغراي" سراً

تبدد الآمال بشأن مفاوضات السلام الإثيوبية

وبينما كانت التوترات تتصاعد، كان هناك تفاؤل في الوقت نفسه بأن محادثات السلام قد تبدأ، قبل أن تنسف جولة القتال الجديدة هذا التفاؤل. وقد ذكرت "بي بي سي" أن أبي أحمد أرسل في وقت سابق مسؤولين كباراً في حكومته للقاء مسؤولين في "جبهة تحرير شعب تيغراي" سراً، مشيرة إلى أن ذلك تم في دولتي سيشيل وجيبوتي. وقد قالت "جبهة تيغراي" أيضاً إنه تم عقد اجتماعين في الخارج، وهو ما لم تؤكده الحكومة.

وكانت كل من الحكومة و"جبهة تحرير شعب تيغراي" قد قالتا في أكثر من مناسبة منذ مارس الماضي، إنهما مستعدتان لإجراء مفاوضات لإنهاء النزاع. لكن لم تجر أي مباحثات علنية ملموسة بينهما بسبب الخلافات حول عدة نقاط.

ويبرز خلاف بين الطرفين حول من يتعين أن يقود أي مفاوضات. وتصرّ الحكومة الإثيوبية على قيادة الاتحاد الأفريقي جهود الوساطة. في المقابل، تنتقد سلطات تيغراي جهود الهيئة القارية وهي تشترط إعادة الخدمات الأساسية للمنطقة التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة، قبل بدء حوار.

وضاعفت الأسرة الدولية عبثاً منذ أسبوع الدعوات إلى وقف المعارك، فيما تبددت الآمال التي لاحت في يونيو/ حزيران الماضي بانخراط الطرفين في مفاوضات. وتعقيباً على الدعوات المتجددة إلى وقف الأعمال العسكرية وإلى الحوار، اعتبرت أديس أبابا أخيراً أنه من غير المقبول استمرار "خطاب المعسكرين" الذي تعتمده الأسرة الدولية ووضعها على قدم المساواة "الحكومة وزمرة محاربة".

الطرفان كانا دائماً على أهبة الاستعداد لاستئناف الحرب

وبعد هزيمتهم السريعة في نوفمبر 2020 أمام القوات التي أرسلها أبي أحمد إلى تيغراي، استعاد المتمردون الإقليم بصورة شبه كاملة بحلول منتصف 2021 باستثناء الغرب، بعد شن هجوم جعلهم يقتربون من أديس أبابا. وانكفأوا بعد ذلك نحو تيغراي وهم يتهمون الحكومة بمحاصرة الإقليم، وهو ما تنفيه أديس أبابا.

ولا تعرف حتى الآن حصيلة هذه الحرب الدامية، لكنها تسببت بمقتل آلاف الأشخاص وبنزوح أكثر من مليوني شخص وأغرقت مئات آلاف الإثيوبيين في ظروف أقرب إلى المجاعة، بحسب الأمم المتحدة.

ويحتاج تقريبا جميع سكان تيغراي البالغ عددهم 5.5 ملايين نسمة إلى مساعدات غذائية، لكن الجولة الأخيرة من العنف أوقفت جميع القوافل الإنسانية. كما أن تيغراي محرومة منذ أكثر من عام من الكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية والوقود.

موقف صعب للسودان

في هذه الأثناء، تجددت المخاوف في السودان من تأثيرات الحرب عليه. وفي السياق، قال الصحافي السوداني المتخصص في الشؤون الإثيوبية محمد حامد جمعة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "من المؤكد أن تمدُّد الحرب بين الحكومة وجبهة تحرير تيغراي سيلقي بظلال سلبية على السودان، سواء بسبب تدفق اللاجئين كما حدث في الحرب الأولى عام 2020، أو بسبب أعباء أمنية بانتقال الحرب إلى الحدود السودانية الإثيوبية".

وأوضح جمعة أن "إثيوبيا ومعها إريتريا كطرف ثالث في الحرب، سيحرصان كل الحرص على تأمين الحدود مع السودان حتى لا تنفتح تلك الحدود أمام جبهة تحرير تيغراي، بما يتيح وصول السلاح والإمداد إليها، أو إجلاء جرحاها، بعلم السودان أو من دون علمه"، وأشار إلى أن ذلك إذا حدث "سيعقد أكثر مشهد العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الخرطوم وأديس أبابا".

وأضاف جمعة أن "السودان سيبدو في المستقبل أمام خيارات صعبة، فإذا انتصرت الحكومة الإثيوبية على جبهة تيغراي من دون مناصرة من الخرطوم، سيُصنف من قبل أديس أبابا بأنه بلد غير صديق، وإذا انتصرت جبهة تيغراي وحدثت تعديلات في المشهد الإثيوبي، سيكون السودان بعيداً عن التأثير على المشهد".

جمعة: إثيوبيا ومعها إريتريا كطرف ثالث في الحرب، سيحرصان كل الحرص على تأمين الحدود مع السودان حتى لا تنفتح تلك الحدود أمام جبهة تحرير تيغراي

لكن أخطر السيناريوهات، وفق جمعة، هو "انفصال إاقليم تيغراي بنهاية الحرب وتكوين دولته المستقلة وحصوله على اعتراف ولو محدود. فذلك يعني أن الوضع سيتحول إلى تهديد لكل منطقة القرن الأفريقي، وسيكون شرق السودان بتعقيداته الحالية والسباق الدولي والإقليمي نحوه، أكثر المتأثرين".

ورأى جمعة أنه "ليس أمام الخرطوم من خيار سوى التدخل كوسيط بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تيغراي لإنجاز تسوية تراعي مصلحة الطرفين، وتراعي في الوقت ذاته مصالح السودان الاستراتيجية وتنهي المهددات الحالية".

من جهته، شدد الخبير العسكري السوداني، الفريق محمد بشير سليمان، في حديث مع "العربي الجديد"، على "ضرورة وقوف السودان على الحياد تجاه الصراع المتمدد في إثيوبيا، وأن يمنع دخول أي مقاتلين يحملون السلاح إلى أراضيه؛ سواء من الجيش الإثيوبي أو من جبهة تحرير شعب تيغراي، حتى لا يقع تحت طائلة الاتهام، خصوصاً من جانب الحكومة التي تصر في كل مرة على اتهام السودان بدعم الجبهة".

وبرأي سليمان، فإنّ "ما يضاعف حساسية الموقف السوداني هو أن الحرب اندلعت والعلاقات السودانية الإثيوبية تمر بمرحلة من الضعف نتيجة للاعتداءات الإثيوبية على الجيش السوداني بمنطقة الفشقة الحدودية في الأشهر الماضية، وبالتالي تزداد الشكوك الإثيوبية حول موقف السودان".

وأشار إلى أن "موجة اللاجئين المتوقعة ستكون لها تأثيرات أمنية وأخرى اقتصادية على السودان، كما أن الحرب الإثيوبية ستكون لها آثار ضارة على التجارة الحدودية بين البلدين، وهي تجارة يعتمد عليها المواطنون على الحدود بين الدولتين".

المساهمون