رواسب جاهليتنا

21 اغسطس 2016
+ الخط -
لم يكن العرب أمة قبل الإسلام، إنما كان الشعور السائد آنذاك، شعور الفرد بانتمائه إلى قبيلته، وهذا ما أكدته النصوص الموثقة التي وصلتنا من الشعر الجاهلي، فالفرد كان يمدح قبيلته، ويتغنّى بانتصاراتها. وقلَّما نجد شعراً يتغنّى الفرد فيه بأنه عربيٌّ، ويفخر بعرقه كما حال الأمم الأخرى، كالفرس والروم.
والسبب كان واضحاً، أن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمةً بالمعنى المتعارف عليه، فلم يتحدوا لغة ولا ديناً، وليس لهم آمال وطنية واحدة، ولا وجود لشخص أو هيئة مكوّنة من عدة أشخاص لها قوة تنفيذية، تفرض أوامرها على كل الأفراد، فهذا أمرٌ كانت تأباه القبيلة، والأفراد المنضوون تحت مظلتها.
عدَّد الجاحظ، في رسائله، مزايا كل أمة في عصره، فقال: "مزايا سكان الصين الصناعة..."، "واليونانيون يعرفون العِللَ، ويتميزون بالحكمة والآداب... "، "والأتراك يتميزون بقوة أجسامهم، لذلك عُرِفوا بذكائهم في الحروب..."، "والعرب عرفوا بالحسد والأنانية...".
ربما من أسباب ذلك أنهم (العرب) لم يمتلكوا الانتماء الكافي الذي يجمعهم ويوحّدهم، كما كان سائداً عند الفرس والروم، اللذين سبقا العرب آنذاك، إلى المدنية والتقدّم والازدهار، في حين أنّ العرب كانوا منشغلين بالمشاحنات العنصرية والخلافات القبلية، لذلك كانوا يشعرون بالفقر والضعف والنقص إزاء الحضارات المجاورة.
وعلى الرغم من أنّ كلَّ الحضارات الإنسانية تتقدّم وتزدهر ويعلو شأنها، وفي مرور الوقت تتخلص من "المثالب" و"العيوب" التي كانت تُعيبها منذُ الأزل، إلا أننا ما زالنا نحمل في داخلنا رواسب من العصر الجاهلي "السيئ الصيت"، بعد مضي 1437 عاماً.
سقتُ لكم هذه المقدمة، حتى أُقنع نفسي، وأقنعكم أنّ الذي نعانيه الآن، من حسدٍ، وجهلٍ، وانحطاطٍ، وأنانيةٍ، ولؤمٍ، وعدم محبة الخير للآخرين، والاحتفاء بإنجازاتهم، ونجاحاتهم، من أجل خير الأمة ككل، ليس غريباً علينا، ولكن الغريب في الأمر، أنّه رغم مضي مئات السنين، ما نزال لم نخطُ أيَّ خطوةٍ، نحو "التحضر" و"التمدن" و"التقدم" و"الازدهار".
فوجئت، كما كثيرين، بسبب ما صرّح به القيادي في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وجدي غنيم، في مقابلة تلفزيونية، عن العالم الراحل أحمد زويل، قائلاً: "لا أقول إن زويل مشرك، لا بل هو كافر، ولا يجوز الترّحم عليه"، واستنكر مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشدّدة التابع لدار الإفتاء المصرية هذه التصريحات الهمجية.
يعلم الكثيرون أن زويل نال أرفع مرتبة علمية في الولايات المتحدة الأميركية، وحلّ تاسعاً في قائمة الشرف الأميركية التي تضم 29 عالماً ساهموا في النهضة العالمية، إلى جانب أينشتاين وألكسندر غراهام بيل وغيرهما. وساهم أيضاً في المكتبة العالمية بـ "350" بحثاً محكماً، وبلغت الشهرة العالمية باختراعه جهاز ميكروسكوب يقوم بتصوير أشعة الليزر في ما مقداره "فمتو ثانية"، وهو ما عُد ثورة في علم الكيمياء، انعكست آثارها على عدة مجالات.
للأسف، نضطر دائماً إلى تفنيد "الخزعبلات" التي يُتهم بها روادنا وعلماؤنا ومفكرينا ومبدعينا، على الرغم من أن الأوْلى، تحفيز الشباب على المضي نحو الطرق التي سلكها زويل وأمثاله من العباقرة، وتسخير كل الإمكانات المادية والمعنوية لهم.
وحتى مشوار زويل نفسه يؤكد بطريقةٍ لا تقبل السجال، أن بيئتنا طاردة للمبدعين، ولا تحتضن العلماء، ولا توفر لهم أدنى الأدوات التي يحتاجها المبدعون عادةً، في وقت توفر تلك الأدوات اللازمة الدول الحديثة، وتقدّمها لمبدعينا على طبقٍ من ذهب، فنجيء نحن وننعتهم بأنهم مطبعون، وخائنون، وعملاء، وكفار، ولا يستحقون حتى "الرحمة" منّا، فأيُّ حسدٍ ولؤمٍ وأنانيةٍ وجهلٍ هذه.
تقوم الحضارات، وتزدهر الأمم، ويعلو شأنها ومكانتها، على أكتاف العلماء والمبدعين والمفكرين، فهكذا كان حال الحضارة الغربية. في حين أننا ما نزال نهمّش قاماتنا ونضطهدهم وننعتهم بأبشع النعوت، وهذا كفيلٌ ببقائنا في الحضيض إلى أبد الآبدين.
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
بشير الكبيسي (العراق)
بشير الكبيسي (العراق)