المرأة الحديدية

03 اغسطس 2016

نجلاء فتحي في "المرأة الحديدية"

+ الخط -

غريبٌ أمر المرأة حين تحب، فحبها معناه الوفاء، والمضي في طريق العذاب حتى النهاية، والسير معصوبة العينين خلف نداء قلبها، ليصدق فيها المثل الشعبي إن مرآة الحب عمياء، على الرغم من أنه كثيراً ما يحيق بها الظلم، حين تتهم بأنها تلهث خلف الثراء. والحقيقة أن كثيراً ما يقتل الحب إنسانيتها أيضاً، ويدوس على كرامتها، ويبعثر كبرياءها.

 كلمة حلوة ولمسة حانية، ووعود ليلةٍ قمرية، تقودها نحو حتفها لتصدّ كل من يلومها أنها سلكت طريق الآلام، فردّها أنها امرأة تحب، وأن حبها له هو الغفران الوحيد الذي يمسح كل سيرته الملوثة أمام مرآة قلبها، ولتعلن أنها "مش ندمانة"، كما أعلنت ماجدة في نهاية فيلم "المرأة الحديدية"، أنها ليست نادمةً على ارتكابها سلسلة من جرائم القتل المنظمة والمتسلسلة، بدافع الانتقام لزوجها، حتى بعد اكتشافها أنه كان يعمل في تزوير العملات، فقد كان موقفها صادماً في نهاية أحداث الفيلم التي لهثنا وراءها، بل إننا، مشاهداته خصوصاً، كنا نبحث معها عن القتلة، ونتتبع آثارهم، ونشغل عقولنا، ونقترح تدابيرنا، لنصل إليهم قبلها، وندلها على طريقهم، لكي تشفي غليلها ممن قتلوا حبيب عمرها، بعد أيام من زواجها، لكننا ذهلنا حين قالت، وهي تعرف أن حبل المشنقة ينتظرها: هو عمل كل ده علشاني.

وفي فيلم "أحلام هند وكاميليا"، دفعنا المخرج الراحل، محمد خان، إلى التعاطف مع خادمتين بائستين، إحداهما وقعت ضحية حب لص خفيف الظل، وحملت منه في أحشائها ثمرة الحب. وعلى الرغم من أنها تعلم، منذ البداية، أنه ليس فوق مستوى الشبهات، إلا أنها سارت خلف قلبها حتى النهاية، فقد دخل السجن وتركها في العالم السفلي للقاهرة مع طفلتهما، وأحلامها في أن تصبح زوجة "مستتة"، وليست خادمة.

وفي فيلم واقعي، التقيتها ذات صباح ندي، وقد خرجت من بيتها بمجرد أن بدأت الشمس "تموء" فوق وجهها، واستوقفتني لتعرض عليّ العمل في بيتي خادمةً، معتقدة أن هذا العمل يمكن أن تُفتح لها أبوابه بسرعة، حيث علقت بمرارة: أصحاب الشهادات علقوها على الحيطان. وحكت لي حكايتها، وكيف التقت بزوجها، حين وفد إلى رام الله من غزة، قبل خمسة عشر عاماً، ليكمل دراسته الجامعية، وكيف أقنعها ذلك الشاب المتحدر من أصولٍ بدوية، أن ترتبط به، على الرغم من معارضة أهلها، ليتم زواجهما، وتنتقل للعيش في غزة، وتعيش غربتين، أولاهما غربة العادات والتقاليد، فعائلة زوجها عائلة بدوية صميمة لم تتقبلها بسهولة. وغزة كلها تختلف بنمط حياتها عن رام الله، عاصمة فلسطين الفعلية، وحيث كانت تتمتع بمساحةٍ من الحرية، استكثرتها عليها غزة، لكنها تحملت، لأنها سارت خلف قلبها، حتى أصبح لديها أربعة أطفال، وأطبق الحصار على غزة، ولم تعد قادرةً على زيارة أهلها، وزجَّ زوجها في السجن، بعد تورطه في قضية كبيرة.

قالت وهي تبكي: أعرف أنه أخطأ، فقد أعماه الطمع، كان يريد أن يحقق دخلاً أفضل للعائلة، ودائماً ما كان يردّد لي أنه لم يتزوّجني، ويبعدني عن أهلي، لأعيش حياةً مرفهةً مع موظفٍ لا يكفيه راتبه حتى منتصف الشهر، وكنت أنهاه عن هذا التفكير، لأني كنت فعلاً أشعر بالسعادة. لم أر منه ما يحزنني، ولم يغضبني، بل على العكس، كان لي كل شيء، وعوّضني عن غياب أسرتي، حتى تورّط في قضيةٍ كبيرةٍ، بعد أن قدمه شركاؤه كبش فداء، والتفَتُّ لأجد نفسي وحيدةً بلا سندٍ ولا معيل، حتى عائلته تخلت عنه، لكني لم أفكر في أن أعود إلى أهلي، وترك غزة، لأني أحبه، وأحب أولادي الذين أنجبتهم منه. ولذلك، قرّرت أن أعمل خادمةً في البيوت، وأنتظره مهما كان المشوار شاقاً وطويلاً.

المرأة الحديدية "ماجدة"، والتي مثلتها باقتدار نجلاء فتحي، وهند التي أجادت دورها عايدة رياض، والمرأة ابنة المدينة الراقية التي أصبحت خادمةً في البيوت، نماذج ثلاث لنساء ناعماتٍ، حوّلهن الحب نساءً من حديد.

دلالات

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.