نم هانئاً سيد بيريز

08 أكتوبر 2016
+ الخط -
لم يكن الحضور العالمي الكثيف لجنازة شمعون بيريز، بمن فيهم العرب، مثيرا للدهشة والاستغراب. المدهش كان غياب باقي الزعماء العرب، واكتفاء بعضهم بإرسال مندوبين عنهم، فالأخ بيريز، على ما يبدو، كان صديقا للجميع. ومن الطبيعي أن نرى هذا الحشد الحزين في جنازته، كما من الطبيعي أن تُذرف الدموع الحارقة على رحيله الفاجع، فشمعون بيريز هو آخر من كان على قيد الحياة من مؤسسي (دولة إسرائيل)، وكان الأكثر قرباً إلى بن غوريون، مؤسس الدولة، وهو صاحب إنجازات عظيمة في قتل الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، وحاصلٌ على جائزة نوبل للسلام، لموافقته على توقيع اتفاق أوسلو مع القيادة الفلسطينية، وكان له الدور الأكبر في كل المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق العرب، وهذا شرفٌ كبيرٌ يستحق عليه هذا الحزن الذي فاض علينا من شاشات الفضائيات العربية والعالمية التي كانت تنقل تفاصيل الجنازة.
والحال أن بيريز قدّم للزعماء العرب وللعالم، منذ قيام دولة إسرائيل وحتى وفاته، خدماتٍ لا تُنسى، فبسبب وجود دولة إسرائيل (العدوة المحتلة) تحوّل هؤلاء الزعماء إلى مجموعةٍ من المناضلين في سبيل القضية القومية المركزية الأولى، قضية فلسطين. وبفضلها، تمكّنوا من السيطرة على شعوبهم وتدجينها، إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع إسرائيل الصهيونية التي تحتل أراضي العرب، أي صوتٍ يعلو أو يرتفع، منتقدا هؤلاء الزعماء وأنظمتهم، متآمر وخائن وعميل لهذا الكيان الغاصب. تمت سرقة الأوطان، ونهب خيراتها لصالح المافيات الحاكمة باسم القضية القومية المركزية. نشأت مؤسسات عسكرية وأمنية فاسدة، وحكمت الشعوب بالبسطار الأمني والعسكري. باسم القضية القومية المركزية، تم تأجيج المذهبية والطائفية وتكريسهما باسم القضية القومية المركزية، أفقرت الشعوب وجهلت وغيبت تماماً باسم القضية القومية المركزية. زجّ مئات آلاف المواطنين العرب من التقدميين والأحرار في سجون زعماء الأنظمة العربية، باسم القضية القومية المركزية. تم القضاء على كل الحركات التحرّرية العربية، والمقاومة الوطنية التقدمية، واستبدلت بكياناتٍ وحركاتٍ وأحزابٍ ذات بعد واستراتيجيات مذهبية وطائفية، باسم القضية القومية المركزية. بيعت البلاد وأراضيها ودمّر اقتصادها وبنياتها الاجتماعية، باسم القضية القومية المركزية. تحولت الجمهوريات إلى أشباه ممالك فاشلة، عبر توريث أو محاولات توريث الزعماء الحكم لأولادهم، باسم القضية القومية المركزية، سمّيت أسوأ أنواع المراكز الأمنية التي غيبت المئات في كهوفها، باسم القضية القومية المركزية.
اتهمت الشعوب التي ثارت ضد أنظمتها ببيعها القضية القومية المركزية، ويتم قتلها يومياً من الأنظمة والدول والأحزاب التي تتصدّر هذه القضية المركزية وتحتكرها. الشعوب نفسها التي دفعت أثماناً باهظة أكثر من ستين عاما في سبيل القضية المركزية، وهي مؤمنة أنها قضية عادلة ومحقة، وأن الحق لا بد أن ينتصر يوماً. يستحق شمعون بيرير وداعاً يليق بما قدمه للعالم من خدماتٍ كثيرة، فبفضله، وبفضل "دولة إسرائيل"، تمنع شعوب العرب من تقرير مصيرها، ولا مانع من موت نصف هذه الشعوب، ما دام موتها كفيلاً بإعادة ترتيب مصالح المافيات الحاكمة للعالم، فلا تستحق هذه الشعوب الديمقراطية، ولا الحياة الكريمة، ولا المستقبل الآمن. لا تستحق هذه الشعوب سوى وصمة الإرهاب والتخلف، لتبقى دولة إسرائيل، بديمقراطيتها العجيبة، هي المركز (الحضاري) الوحيد في هذا الشرق البائس، والمنكوب بكل ما فيه. وعليه، ليس مستغرباً إن فاضت دموع المشاركين في جنازة الفقيد شمعون بيريز، وإن بللتنا عبر الصور الملتقطة، أو الفيديوهات المبثوثة، فنحن، الشعوب الإرهابية، علينا أن نشكر الله على نعمة البلل هذه. وعلينا أن نتمنى لحكامنا المصير نفسه، على أن يكون مصيراً قريباً. وسنقدر وقتها دموع زعماء العالم حزنا عليهم، ولن نستهجن هذا الحزن، بل سنجد له الأعذار المناسبة، فحكامنا أيضاً قدّموا لزعماء العالم خدماتٍ لا تنسى. ألا يكفي أنهم ساهموا بحل مشكلات العالم الاقتصادية، بجعل بلادنا بؤرا خصبة للسلاح الوارد إلينا من كل العالم؟ ألا يكفي أنهم بيّضوا تاريخ إسرائيل الإجرامي بما ارتكبوه من مجازر بحق شعوبهم؟ نم هائناً سيد بيريز.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.