العرب وروسيا.. الاستثمار المضيّع

08 سبتمبر 2015

المعلم ولافروف.. التنسيق الروسي مع النظام السوري (9 سبتمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -
في النصف الثاني من عام 2015، زار، ويزور، روسيا سبعة زعماء ومسؤولو دول عربية، في محاولة لتوسيع مروحة العلاقات العربية مع القوى الدولية، وتنويع خياراتها، ما تزامن مع تأكيدات موسكو، أنه لا تغيير في موقفها تجاه قضايا العرب، وخصوصاً قضيتهم الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، أي الصراع مع إيران التي تهدد، علناً، النظام الإقليمي العربي، واستقرار المجتمعات العربية برمتها، سواء بشكل مباشر أو من خلال أذرعها في المنطقة، بل وصل الأمر بروسيا، فيما يبدو تحدياً للرغبة العربية، إلى الانخراط المباشر في الحرب السورية إلى جانب خصم غالبية البلدان التي ذهب وسيذهب قادتها إلى موسكو. 
يحصل ذلك في وقت ترجّح فيه معظم التقديرات العربية أن موسكو لن تغيّر موقفها من إيران ونظام الأسد، الذراع الأخطر لها، ما لم تكن هناك ضغوط حقيقية، تمارسها الأطراف العربية على موسكو، إن بشكل مباشر عبر تخفيض مستويات التواصل والإهمال السياسي للدور الروسي، وكذا بتخفيض التعامل التجاري، خصوصاً وأن العرب هم الطرف الخاسر فيه، أو بالضغط الميداني. حسناً، إذن، ما وظيفة هذه التقديرات، وما أهميتها إذا لم تترجم الى سياسات فعلية، وما دام العرب قد وصلت إليهم هذه الخلاصة، فلماذا يفعلون عكسها؟. ثم ما معنى أنه، على الرغم من كل هذا الزخم العربي باتجاه الكرملين، ما زالت الدبلوماسية الروسية تصر على مواقفها المعادية للمصالح العربية، والمفارقة، أن بعض الأطراف العربية التي ذهبت إلى موسكو قد تزحزحت مواقفها، وخصوصاً تجاه الوضع السوري.
يحلينا هذا الأمر إلى محاولة فهم الموقف الروسي، سواء لكيفية رؤيته لهذا التحرك العربي، أو لجهة مرتكزات بناء هذا الموقف، ذلك أنه من المفترض، نظرياً، وإذا اقتنعنا بالمبررات التي تسوقها الدبلوماسية العربية بهذا الخصوص، أن يصنع التحرك العربي تغييراً ما، وانعاطفة في الموقف الروسي لصالح القضايا العربية، لكن ذلك على أرض الواقع لم يحصل، لماذا؟
تدرك روسيا أن العرب بصدد إجراء تحوّل جوهري في إدارة علاقاتهم الدولية. لذا يلجأون إليها، لحاجتهم إلى تحقيق توازنٍ، يفيدهم عملانياً في حماية أمنهم واستقرارهم الذي بات رهين المساومات بين القوى الدولية والمراكز الإقليمية، وهذا الأمر بالفعل هو نتاج تقديرات عربية لاختلال التوزانات الحاصلة، والمقدر حصولها في المنطقة، ومحاولة بناء شبكة علاقات دولية أوسع، تخفف عنهم التداعيات، هي رؤية استراتيجية يمكن وضعها في خانة الاستجابة الطبيعية والعقلانية لهذه المتغيرات، ويتم تصريفها عبر تكتيك تعميق قنوات التواصل مع مراكز دولية فاعلة، وفق منطق تبادلية المصالح.

لكن المشكلة أن روسيا لا تنظر للأمر من هذه الزاوية، أو لا تراه كما يقدّره العرب ويرونه، فهي، أولاً، ترى وتسمع العرب الوافدين عليها يتعاطون معها كونهم أنظمة ودولاً مختلفة، لكل واحد منهم احتياجات ومطالب مختلفة عن الآخر، إن لم تكن متناقضة. وثانياً، تعرف روسيا أن العرب لن يشكلوا قوة ضاغطة ضدها، مهما رفعت سقف عدائها لهم، فالمصري والجزائري معها في كل الحالات، ومواقف قسم كبير من بقية العرب متأرجحة وغير متماسكة. وثالثاً، تدرك أن العرب يصلونها منكسرين، أميركا تخلت عنهم وإيران تحاصرهم وتركيا تستعلي عليهم وإسرائيل تستهتر بهم.
من جهة ثانية، ما يعتقده العرب براعة استراتيجية في التقاط التغيرات الدولية، وإجراء التحولات في الوقت المناسب لا تراه، أيضاً، روسيا كذلك، بل تتعامل مع الأمر بوصفه حالة خضوع، حصلت نتيجة عملية وجهد استراتيجي طويل، قامت به مع حليفتها إيران، وكانت نتيجته تحطيم بنية شبكة الأمان الإقليمي العربي واختراقه، وهي تنظر إلى نفسها على أنها شريك في هذا الانتصار، وإن كانت تدمجه في إطار انتصارها الاستراتيجي على القوى الكبرى المقابلة لها، على المستوى العالمي. الأكثر من ذلك أنها تعتقد أن هذا الانتصار لن يتجوهر، ويأتي بكامل حصاده إلا بمزيد من الضغط على البيئة الأمنية العربية، هذا على الأقل هو الفهم الروسي للواقعية السياسية، كما تجري ترجمتها تجاه العرب.
وثمّة ما هو أبعد من ذلك، وأكثر التصاقاً بواقع روسيا الجيواستراتيجي، حيث تنظر موسكو للوضع العربي بوصفه فرصة استراتيجية، لتحقيق نقلة في تراتبية موقعها الدولي، من خلال فعالية أدوارها في المنطقة العربية، إذ هامش الحركة متاح إلى أبعد الحدود، بعد أن اكتشفت أن تحركها في جوارها الأوروبي، أوكرانيا وجورجيا، تحت مجهر الغرب. وبالتالي، فإن من شأن أي خطوة زائدة زيادة تعقيد وضعها في الفضاء الدولي عامة.
تستخدم روسيا في استكمال سياستها العربية طريقة الاستنزاف بالأمل، والتي تقضي بإبقاء العرب على قارعة طريق أوهام تغيير موقفها، أما تكتيكها فيقوم على سياسة الباب المداور، لجهة عدم رفض سماع أحلام العرب وأمنياتهم، ولا شك أن الروس ينتشون بإنجازاتهم الدبلوماسية، تلك التي تمنح دبلوماسيتهم فرصة الظهور بمظهر السياسة الناجحة، والتي تحقق فرصاً عظيمة لروسيا، ثم إنهم لا يخسرون شيئاً في مغامرتهم هذه التي تبدو أنها بمثابة منحة مأجورة، يحصلون في مقابلها على الصفقات والتمويل، ويحصل دبلوماسيوها على شهادات الثناء والإعجاب العالمي.
لسان حال الروس يقول، في هذه اللحظة، سمعنا أن العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون، وها نحن تجاوزنا، في مغامرتنا معهم، الكتابي إلى الشفاهي، ونصرخ بأعلى الصوت "بشار الأسد شرعي وسنكون معه دائماً وأبداً".




5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".