البائع الحلبي

البائع الحلبي

07 أكتوبر 2014

طفلان سوريان لاجئان يتسولان في بيروت (أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

قال لي البائع الحلبيّ الذي يستقبلني، كل مرة، بحفاوة مطلقة، لأني برأيه أشبه إحدى ممثلات التلفزيون في سورية: لم يعد أحد يطيقنا! استغربت عبارته، واستفسرت، فأخبرني أنه باشر بتصفية بضاعته، لأن الإشاعات تتكاثر بشأن ترحيل السوريين من لبنان، ثم أتبع كلامه هذا بمعاناته مع جيرانه الذين يتكتّلون ضده، كلما حصل في البناية أمر يغضب ساكنيها، على الرغم من أنه وأبناءه منها براء.
قال البائع الحلبي هذا، ووجد من يجيبه من بين الزبائن الحاضرين بأنه ربما يبالغ، وربما يتصوّر أشياء ليست واقعية. واستنكر أحدهم بشدة، فحكى عما فعله ويفعله، هو وسواه، لمساعدة العائلات النازحة، وبرر ثالث ما يجري، حالياً، بالتاريخ الأسود المقيت للنظام السوري في لبنان، متبوعاً بما يرتكبه داعش وسواه من التنظيمات الإسلامية المتطرفة الأخرى. وأضاف رابع محتدّا أن أفراداً كثراً ممن يقال عنهم فقراء و"مقموعين"، استفادوا ودعسوا بأحذيتهم إخوانهم اللبنانيين، مستقوين بجزمة مواطنيهم من العسكر ومخابراته. وأنهى خامس الحوار بترطيب الأجواء التي سخنت، مستنتجاً بأن لبنان يختنق بالنازحين، وإن لم يكن هذا ذنبهم، خالصاً إلى "الله يعينكم ويخلّصكم حتى نخلص"...
ازداد توتر البائع الحلبي، فعاد يسترسل في شكواه، حتى اقتربتُ منه، وهمستُ له: لا تخف، لن يقترب أحد منك! وإن حصل، فما عليك سوى الاتصال بي! قلت هذا كمن يطلب هدنة، كمن يؤكد لمعتلّ أنه شافٍ لا محالة، وما عليه سوى أن يوقف شكواه. قلت كلاماً كي يكفّ، أي كلام!
وكان أن فعلتْ جملتي فعلَ السحر فيه، فانفرجت أساريره ودبّ فيه النشاط، وعاد كجاري عادته، يمازح زبائنه، ويشاكسهم في السعر. وحينما أنهيت مشترياتي وتقدمت للدفع، طلب مني رقم هاتفي، مكرّرا اسمه أكثر من مرة كي أحفظه، فلا أستغربه إن هو اتصل بي طلباً للمساعدة. هززت رأسي، وابتسمت وشعرت بالورطة، وكرهت أن يورّطني هكذا بكلمةٍ، قذفتها لأطبطب على وجعه. حبة أسبرين يعني، لا أكثر ولا أقل، وها هو يصدّق أنها ستشفيه من مرض عضال!
مرّ النهار، وانهمكتُ في واجباتٍ وانشغالاتٍ ومكالمات، وجاء المساء، وخلدت إلى النوم، وجافاني النعاس، وأنا ألوك الهاجس نفسه: ماذا لو اتصل بي؟ سيتصل! نظراته اليائسة قالت لي ذلك، وعيناه، حيث ارتسمت صور الإذلال والترهيب الأخيرة، وتلك اليافطات التي تطالب السوريين "بالرحيل"، أو "بعدم التجوّل ليلا" والتي، كلما مررت من تحتها، أشعرتني بالعار، وجعلتني أرغب بالتضاؤل، وبدخول رأسي بين كتفيّ. وحين استفحل الأرق بي لعنته، وقلت لن أجيب على اتصاله! ثم قلت إني سأردّ، فأقول إني خارج البلاد...
يا الله، ما هذه الورطة!
قمت أصنع فنجان قهوة، وأتندّم على اليوم الذي قررت فيه وقف التدخين. حسناً، بمن يمكنني الاتصال؟ بصديقتي م. ك، فهي أسرّت لي، ذات يوم، أنها على علاقة شخصية بوزير الداخلية. ثم إنها من فصيلة اللبنانيين الذين عاشوا في الغربة ردحاً من الزمن، فتهوّت عقولهم ولُقّحوا ضد الخوف من الآخر، إذ كانوا هم ذات يوم "آخر". سأرجوها قائلة "أنجديني يا... لقد وعدته، ووعد الحرّ دين"!
هل بات يحتاج كل سوري نازح في لبنان إلى لبناني يجري له اتصالاً؟
انبلج الفجر، وأنا جالسة في الشرفة أفكّر بهشاشتي، بفيضاني بكل ما في لبنان من مشكلات ومعضلات. هنا، المشكلة تشرّش وتعمّر، وتحيا من بعدك عقوداً. هنا وعاء يمتلئ بالقهر، وتأتي مجارٍ وحنفيات أخرى، لتدلق فيه نصيبَها من الضنك والذل. العنصرية اللبنانية - السورية الجاري الحديث فيها أينما يمّمت، تجري في الاتجاهين. أجل في الاتجاهين، الفرق الوحيد أن هناك طرفاً جالساً في منزله، في أرضه، وطرفاً آخر جالساً في العراء. 


 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"