لماذا قتلتُم آدم؟

31 أكتوبر 2023
+ الخط -

بعدما وقف مندوب دولة الاحتلال خطيباً متحلّلاً من الصدق والحقيقة، في مستهلّ الاجتماع الطارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة، مدافعاً عن الجرائم الوحشية المتواصلة على مدار الساعة في غزّة، ومسوّغاً حرب الإبادة في القطاع المحاصر، تحدّث وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، بنبرةٍ هادئة، وقال في ما قاله لوفود الدول الأعضاء في المنظمة الدولية: لا تصدّقوا الكذّابين (من سبقه في الحديث على المنصّة)، وطرح سؤال العارف "لماذا قتلتم آدم؟"، في إشارة حاذقة إلى اقتراف الاحتلال جريمة قصف عائلة مراسل قناة الجزيرة في غزّة وائل الدحدوح، تلك الجريمة التي ذهبت فيها حيواتٌ عديدة، من بينها زوجة وائل وابنه وابنته وحفيده آدم البالغ من العمر 45 يوماً.
الرضيع آدم الدحدوح واحد من بين نحو أربعة آلاف آدم وحوّاء، بينهم نحو ألف لا يزالون تحت الأنقاض، منهم الصبي يوسف (الأبيضاني الحلو شعره كيرلي)، أزهقت أرواحَهم طائرات الاحتلال، ليس بفعل خطأ في قراءة الإحداثيات، أو جرّاء نتيجة جانبية للحرب الشعواء، وإنما بقصدٍ جنائيٍّ اتخذه القتلة مع سبق الإصرار والترصّد، هدفه المضمر قطع النسل والأرحام، وإيقاف تدافع الأجيال الفلسطينية، في سابقةٍ غير مسبوقة على الإطلاق، أحسب أنها لم تحدُث في أيٍّ من الحروب بين الأمم والإمبراطوريات، حتى في زمن القرون الوسطى، وفق ما تنطق به مشاهد الأطفال الناجين من المقتلة المستمرّة، بوجوههم الشاحبة، وشعر رؤوسهم المُعفّر بالتراب، وعيونهم الزائغة أمام عدسات المصوّرين، وكلها دلائلُ إثباتٍ على وجود نيّة شيطانية سوداء، لم تعد مبيّته على أي حال، بهدف القضاء على جيل فلسطيني طالع من رحم المعاناة، مُقدّر له أن يتسلّم راية المقاومة، وأن يعاود كرّة طوفان الأقصى، ولو بعد 20 عاما. ذلك أن الذين صنعوا ملحمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول المجيدة، عندما اقتحموا أبواب القلعة الحصينة، وخاضوا أول معركة في تاريخ الصراع المديد من داخل أسوارها المنيعة، هم أولاد جيل الانتفاضة الثانية، أبناء هذه اللحظة الفلسطينية الفارقة بين زمنين مختلفين، أصحاب هذه الملحمة المحتشدة بالدروس والعِبر الثمينة، ناهيك عن الحقائق والنتائج التي لا تمّحي مع مرور الوقت، ولا تسقُط من البال، كما أن هؤلاء الرجال الرجال، وهم في العشرينيات، هم أيضاً أحفاد اللاجئين المهجّرين قبل 75 سنة، أولئك الناس الذين خرجوا من ديارهم حفاةً وشبه عًراة، لا يلوون على شيء، سكنوا بيوت الصفيح وكابدوا طويلاً مرارة شظف العيش، إلا أنهم أعادوا بناء أنفسهم، إلى أن كبّروا الأولاد، الذين تعلموا وأطلقوا الثورة المعاصرة من فوق بساط الريح.
وليس من شك في أن هذه السيرة الكفاحية لشعب الجبّارين، الذي استردّ هويته بعد تغييب قسريّ، أو قل انبعث من تحت الرماد طائر الفينيق، كانت موضع فحص وتمحيص على مرّ السنين لدى مراكز التفكير في تل أبيب، ومحلّ مراجعات واستقصاء، أحسب أنها تبلورت قبل أن تقع الواقعة، ونضجت تماماً في أذهان قادة الاحتلال عشية الطوفان، عندما شرعوا منذ أول غارة جوية على غزّة المكتظة بالناس، بعمليةٍ منهجيةٍ طويلة المدى، ولئيمةٍ لؤم قتلة الأنبياء والأطفال، لاستئصال جيل واعد من الصبيان والبنات والأمهات الولودات، لتحقيق جملة طويلة من الغايات المعلنة وغير المعلنة، من بينها إنجاز هذه الغاية الخبيثة، أي قطع الذرّية، وخلخلة الهرم السكاني والبنية الديموغرافية الفلسطينية، على نحو ما تُفصح عنها مقتلة الأطفال الصغار، بمن فيهم الرّضيع آدم ويوسف الجميل، ومنى ومحمّد وأميرة والقائمة تطول.
ولا أحسب أن كل هذا السعار المستشري في أوصال مجتمع مسّه الجنون منذ صبيحة يوم 7 أكتوبر، مجرّد رد فعل عصبي على هذه الضربة الاستراتيجية، التي زلزلت الأرض تحت أقدام قومٍ جاءهم الطوفان وهم يغطّون في سبات يوم السبت، وإنما هو الذعر بعينه، هو الهستيريا والهلع من وقوع هذه السابقة غير المسبوقة (الحرب من داخل القلعة لا من خارج أسوارها) من جديد، وتكرار هذه الفعلة المؤسّسة لغيرها من الأفعال المماثلة في مستقبلٍ غير بعيد، واستنساخ هذه الواقعة الكبرى التي لم تعُد مجرّد أوهام وأضغاث أحلام، أو ترّهات نخبة من الجنرالات المتقاعدين، تتحدّث عن الشر المستطير الواقف وراء الباب، عن المصير المعلّق على وقوع هزيمة واحدة فقط، عن البقاء وعن السؤال الوجودي، عن عقدةٍ تسكن الذاكرة المثخنة "لعنة الثمانين"، أي زوال الدولة العبرية قبل اكتمال العقد الثامن، وفق ميثولوجيا مسكونةٍ بالانكسارات والخرافات والتشتت والمزامير.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي