كيف نتذكّر عبد السلام المجالي؟
يذكُر رئيس الوزراء الأردني الأسبق، عبد السلام المجالي، وهو طبيبٌ أخصائي في الأنف والأذن والحنجرة، في مذكّراته "رحلةُ العُمْر ... من بيت الشَّعر إلى سدّة الحكم" (دار المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2003)، أنّه قبل 1960، وكان مديراً للمستشفى العسكري في ماركا (شرق عمّان) بعد أن عمل فيه طبيباً، كتب إلى مدير الخدمات الطبية في القوات المسلحة يقترح إنشاء مستشفى عالي المستوى شاملٍ في خدماته العلاجية، ولم يتسنّ للاقتراح بحثٌ له. ثم لمّا صار المجالي نفسُه في هذا الموقع، فاتَحَ قائد الجيش، حابس المجالي، بالمشروع، وقد عرف أنّ كلفته مليون دينار، غير أنّه تلقّى الجواب إنّ موازنة الجيش ليس في وسعها تأمين هذا المبلغ الكبير. ثم علم أنّ الجيش سيوفّر لشركة إنتاج فيلم "لورنس العرب" (بطولة بيتر أودول وعمر الشريف، 1962) تسهيلاتٍ وخدماتٍ وخياماً وخيولاً (وجنوداً) في مواقع التصوير في الأردن، وأنّ الشركة ستدفع مبلغاً في المقابل يوضَع في صندوقٍ خاص للجيش، وكان التقدير أنّه مليون دينار، غير أنّ الشركة دفعت 170 ألف دينار. واستطاع عبد السلام أن يُقنع قائد الجيش بأن يكون هذا المبلغ عتبة مشروع المستشفى الذي جرى جمع بقية كلفته في السنوات الثلاث التالية، حتى اكتمل بناء ما صارت تُعرف مدينة الحسين الطبية (أو سلاح الخدمات الطبية في الجيش)، ثم احتيج إلى مليون دينار لتأثيث المستشفى ولتجهيزاته، فابتُعث عبد السلام إلى إنكلترا ثم ألمانيا لتأمين المبلغ، فتوفّر من الألمان منحةً ثم صار قرضاً. ومنذ 1969، تعدّ هذه المؤسّسة من الصروح الطبية الكبيرة والحيوية في الأردن، وتعالج العسكريين والمدنيين.
قد لا يجد قارئٌ من غير الأردنيين في هذا التفصيل قيمةً خاصة، غير أنّ الذي يوجِب، في زعم صاحب هذه المقالة، إيرادَ ما جاء أعلاه، أنّ الجمهور العربي لا يعرف عن عبد السلام المجالي سوى أنّه الذي وقّع معاهدة السلام مع إسرائيل في 1994، وكان رئيس الوزراء في بلده، مع إسحق رابين، ما سيخصِم من صورته، سيما أنه لم يُؤثَر عنه أنه كان رجلَ سياسةٍ لامعاً عربياً (وإنْ ترأس الوفد الأردني الفلسطيني المشترك في مؤتمر مدريد، ثم قاد فريق المفاوضات الأردني في واشنطن)، ولا كان صاحب مواقف متقدّمة في الديمقراطية والحريات العامة. وهذا في عمومِه صحيح، غير أنّ فيه إخلالاً بالصورة الأشمل لشخص الرجل. ويعتِّم على مثل جُهدِه المشار إليه في بناءِ واحدٍ من أهم المعالم الطبية المتطوّرة في بلده (وعربياً)، وهو جهدٌ موصولٌ بمنجزاتٍ بالغة الأهمية في بناء مؤسساتٍ أخرى، طبّية وتعليمية، وإطلاق مبادراتٍ في النفع العام، في بلدٍ كان ينهض بنفسه، في ظروف الشحّ وقلة الموارد ونُقصانها (هل من أدلّ على هذا من الاستفادة من مبلغٍ من شركة إنتاج سينما لبناء مستشفى والبحث عن منحةٍ لتأثيثه؟!).
عبد السلام المجالي هو الذي نشط بعملٍ صبورٍ على الدفع بمهنة التمريض للمرأة الأردنية (زوجته البريطانية ممرّضة)، وتثقيف مجتمعِه المحافظ، في مطالع الستينيات، بضرورتها، وسط مزاجٍ عام يتحسّب بشأنها. هو ممن أعلوا مكانة الطبيب في القوات المسلحة، وكان ضابطاً طبيباً فيها (وطبيب الملك الحسين في فترة بعيدة). وهو ممّن عملوا، بجهدٍ كثير، من أجل بناء الجامعة الأردنية في عمّان (الأقدم في الأردن)، والتي قامت في 1962. وفي أثناء تولّيه رئاستها من 1971 إلى 1976 استقدَم كفاءات إليها من سورية ومصر ولبنان، وبدأ في عهده التدريس بنظام الساعات المعتمدة. وأنشأ فيها كليات الطب والزراعة والتمريض، وأوْلى البحث العلمي والدراسات العليا اهتماما خاصا. ويشهد أساتذةٌ في الجامعة التي عاد رئيساً لها من 1980 إلى 1989 على قدراته الإدارية العالية. ولا يُنسى أنه وراء نظام علاج عائلات العسكريين إبّان مسؤولياته في السلك الطبي في القوات المسلحة، وصاحب مشاريع لمّا كان وزيراً للصحة في مطالع السبعينيات، ثم وزيراً للتعليم.
حاز الراحل قبل أيام عن 97 عاما، رحمه الله، عبد السلام المجالي، في أثناء مسؤولياته المهنية العديدة نحو 40 عاماً، في القطاعيْن، التربوي والصحّي، على سمعة عالية، مقرونة بالجدّية والنزاهة والابتكار، وبناء المؤسّسات، بالتوازي مع سمْته المحافظ في السياسة، وإيثاره مماشاة القصر في غير شأن، وقلة حسّه الديمقراطي، وهو الذي تحمّس لقانون الصوت الواحد في الانتخابات (قانون سيئ). ... وإذا كان الأردنيون قد فقدوا قبل أسابيع ليث شبيلات، المعارض الحادّ والشجاع، وكانوا في غير مرحلةٍ في حاجة إليه وإلى صوته، فإنّهم ودّعوا الأسبوع الماضي عبد السلام المجالي، التقليدي الموالي المحافظ، وكانوا في غير مرحلةٍ في حاجةٍ إليه، رجل بناءٍ وإنجازٍ ونهوضٍ ببلدهم.