كلام الليل مدهونٌ بالزبدة

17 يونيو 2023
+ الخط -

لم يعد هناك شكّ في أن تونس تحوّلت إلى ملفٍّ إقليمي ودولي. أكثر من طرفٍ مشغولٌ به، لكن الثابت أن جميع الأطراف وجدت نفسها مضطرّةً لتعديل مواقفها بسبب إصرار الرئيس قيس سعيّد على رفض ما يسمّيها "الإملاءات الخارجية"، فالاتحاد الأوروبي، بعد إصدار البيان تلو البيان، طالب فيها تونس باحترام حقوق الإنسان والحفاظ على المسار الديمقراطي وإطلاق سراح المساجين، عدّل موقفه، وأصبحت الأولوية عند قادته إدخال "إصلاحات جذرية لقوانين الهجرة من شأنها أن تسمح لإيطاليا بترحيل المهاجرين لأسباب اقتصادية إلى دول مثل تونس" باعتبارها دولة عبور. ومن أجل تحقيق ذلك، قدّمت اقتراحا من خمس نقاط ساهمت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني في بلورته، قبله الرئيس سعيّد، وسيناقشه ويصادق عليه الأعضاء الـ27 في الاتحاد. والنقطة المركزية في حزمة هذه الإجراءات أن تقبل تونس بكل المهاجرين غير النظاميين الذين ستتولّى إيطاليا إرجاعهم إليها مقابل دعم مالي لوجستي وصف في الاتفاق بـ"دعم تونس لإدارة الحدود". أي مشاركة السلطات التونسية في مواجهة ملفّ المهاجرين غير النظاميين قبل أن يغادروا التراب التونسي، كذلك وهم في البحر إذا تمكّنوا من اختراق الحواجز الأمنية، وفي حال وصولهم إلى لمبادوزا سيجدون القوات البحرية والبرّية الإيطالية في انتظارهم للتصدّي لهم وإعادتهم إلى تونس. وهناك يتم حشرُهم في معسكرات، يُفترض أن تكون مؤقتة، ويقع فرزهم والعمل على إعادتهم إلى بلدانهم.

الخلاصة أن الرئيس سعيّد قبل ما رفضه كل من الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، وبالأخص الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. لكن ما تجب الإشارة إليه أن الاتفاق الذي عرض على الرئيس التونسي يختلف بعض الشيء عن سابقه. زيادة قليلة في الميزانية، وإدراج محور الهجرة ضمن خمسة محاور حتى يتخذ الاتفاق طابع الشراكة الأوسع. لهذا السبب، ركزت وسائل الإعلام العالمية، وبالأخص الإيطالية، على مسألة الهجرة، وحاولت أن تقارنه بالاتفاق الذي حصل مع تركيا، وكادت أن تتجاهل الجوانب الأخرى من الاتفاق. وبذلك وجد الرئيس التونسي نفسه في تناقض صريح، فهو من جهة أكّد ولا يزال أنه يرفض أن تلعب تونس دور الحارس لحدود الآخرين، لكن هذا الاتفاق الذي وقّع عليه عمليّا هو في النهاية القبول بمهمّة الحارس للحدود البحرية الإيطالية الأوروبية لا أكثر ولا أقل. هو اتفاق أمني بدرجة أساسية، لذلك حضر الجلسة مع الثلاثي الأوروبي وزير الداخلية التونسي، في حين غابت رئيسة الحكومة ووزيرة المالية.

لا خلاف بشأن أهمية ملفّ الهجرة وتداعياته الاستراتيجية، لكنه تحوّل إلى ورقة سياسية يمكن توظيفه في سياقات مختلفة، فرئيسة الحكومة الإيطالية جعلت من الهجرة رهانا انتخابيا لدعم بقائها في السلطة، وهي تحاول أن تنجح في ما أخفق فيه سابقوها. لا يهمها في هذا السياق ما يجري في تونس من تراجع ديمقراطي كاسح. والغريب أنها تمكنت من أن تقنع عموم الأوروبيين بأن تونس هي البوابة الرئيسية لحماية أمن المتوسط. وهذه خرافة جرى تحويلها إلى معطى سياسي صدّقه الجميع، بما فيهم الإدارة الأميركية من خلال وزير خارجيتها، بلينكن، الذي بارك الاتفاق وأيده من دون تحفظ. لم تعترض على ذلك سوى ألمانيا وفرنسا بشكل مختلف لاعتبارات تكتيكية. حتى إدارة صندوق النقد الدولي سارت في الطريق نفسه، وأبدت استعدادها لدراسة مقترح جديد من الحكومة التونسية تكون الأخيرة فيه مسؤولة عن أي سياسة تختارها حتى لا يقال إن الصندوق يعمل على فرض شروط معينة. وقد سبق للرئيس التونسي أن تهكّم، أخيرا، على الصندوق قائلا "لا توجد آية في القران تنصّ على صندوق النقد الدولي".

الخلاصة أن السياسات الدولية لا تخضع لثوابت دائمة، وأن حكومات الدول الكبرى لا يمكن محاسبتها وفق معايير أخلاقية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ما يقال اليوم يمكن أن يتغير غدا أو بعد ساعات. لهذا من أراد حماية حقوقه وكرامة شعبه لا يعتمد إلا على نفسه وشعبه.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس