في "الأنا" وادّعاء المفهومية

في "الأنا" وادّعاء المفهومية

25 سبتمبر 2022

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

كثيرة هي استخدامات "الأنا" في ثقافتنا. تريد أن تعرف كيف يهدي العقلُ صاحبَه إلى التأمل في ما اقترفت يداه؟ أسمع من محمد عبد الوهاب قصيدة الجندول: أنا مَنْ ضيّع في الأوهام عمره.. وحينما تتراءى لك الدماءُ بين العمائم واللحى، وترى الرؤوسَ جاهزة للقطاف، قل مع الحجاج: أنا ابنُ جَلا وطلاع الثنايا. وإذا أردتَ أن تعتدّ بنفسك، لا تُصغِ لضابط في الجيش السوري يقول لك: اعتدّ بنفسك يا حيوان، بل اقرأ قول المتنبّي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعتْ كلماتي مَن به صممُ.

"أنا" لا أختلف مع أحد على أن المتنبي شاعر كبير، ولكنه هنا يعبّر عن أنا متورّمة، تتجاوز الحدود الطبيعية للاعتداد بالنفس، فتبلغ ما تسمّى في العامية "الفَشخرة"، فخلال بيت واحد يسيء لشريحتين من الناس؛ المكفوفين والصُمّ، مثلما أساء، في أماكن أخرى، لسود البشرة، والعبيد، والمخصيين .. لو أنصف لقال إن الإنسان لا يختار لون بشرته، والعبيد ليسوا متطوّعين في منظمات خاصة بجمع العبيد، بل ثمّة مَن استعبدهم بالقوة، وزاد في قهر بعضهم فأخصاهم ليتمكّنوا من خدمة حريمه. وكنت أتمنّى لو أنه تحاشى الإساءة لفاقدي البصر بشكل خاص، إكراماً لفيلسوف شعراء عصره، أبي العلاء المعرّي، الذي كان يحبّه، ويدافع عنه، بدليل أنه كان في مجلس الشريف المرتضى، وسمعه يذمّ المتنبي، فقال: يكفيه أنه القائلُ "لَكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ"، ففهم المرتضى أنه يقصد البيت "وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ .."، فقال أخرجوا هذا الكلب من مجلسي، فخرج المعرّي العظيم وهو يقول: الكلبُ مَن لا يعرف للكلب سبعة وسبعين اسماً.

أنا؛ أرافق أبا العلاء بخيالي، وعاطفتي، وعقلي، وهو خارجٌ من مجلس ذلك الحاكم النكرة، مثل شاحنةٍ محملةٍ بالعلوم والمعارف والذكاء والنبوغ، وأتمنّى لو أنه حذف من ذاكرته ستة وسبعين واحداً من أسماء الكلب التي يحفظها، إذ يكفي أن نقول عن الكلب كلباً، ونتذكّر المثل "الكلبُ كلبٌ ولو طوقته بالذهبِ".. وأنا أتساءل: أَلَيْسَ إسرافاً وتبذيراً أن يكون للحيوان المفترس "الأسد" ثلاثمائة اسم، منها الليث والغضنفر وأسامة وأحْنَس وجساس وأبو لبد وضيغم وحيدر؟ كنت أحبّ من صديقنا الشاعر محمد شيخ علي مخاطبتَه المعريَّ بعبارة "يا أبتِ"، مع أن المعرّي لم يخلّف عامداً، ولم يقل له أحد "أبتِ" إلا مجازاً .. وأنا أقول: تعال يا مَعَرّينا الجليل، يا أبتِ، وانظر كيف تزيّدَ بعضُ هواة الأسود في عصرنا، فلم يتركوا اسم حيدر مثلما ورد في قائمة الأسماء، بل أضافوا إليه التاء فأصبح حيدرة؟ هل تذكرون ما فعله الولد الأهبل حيدرة بن بهجت سليمان بنا نحن "معارضة الكلب" قبل بضع سنوات؟ يومها، أصيبتْ وليةُ نعمته، أسماء الأسد، بمرض خطير، فظهر على "يوتيوب"، وصار يسبّنا زاعماً أن ولية نعمته ستشفى غصباً عن الذين خلّفونا نحن معارضة الكلب!

بعد تمكّن علماء الدول الاستعمارية من اختراع الإنترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي، اكتشفنا أن المحللين السياسيين العباقرة عندنا كثيرون وغزيرو الرأي، فما أن نقرأ عن وقوع حدث ما في منطقتنا، حتى ينطّ لنا واحد منهم ويقول: أنا توقعتُ هذا منذ ست سنوات. ويسألنا آخر، سؤالَ العارف: ألم أقل لكم؟

كان عندنا في البلدة رجلٌ شبه أمي، ولكنه يفهم في كل شيء. وذات مرّة وقعت ابنته الصغيرة على يدها، فناداها، وجَسّ يدها، وقال لزوجته: عادية ما لها قيمة. ولكن زوجته لم تركن لكلامه، أخذت الطفلة إلى طبيب العظام، وبعدما أخذ لها صورة شعاعية قال لها: هناك كسر متبدّل، على كل حال بسيطة، الآن نجبرها وخلال شهر تعود مثلما كانت. لم يتراجع ذلك الفهيم عن رأيه، بالطبع، وقال: ألم أقل لك "ما لها قيمة"؟ شهر واحد وترجع كما كانت!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...