علينا أن نتغيّر لأجلهم
صدف أنني، في سفري الحالي إلى عدة مدن أوروبية في شهر إبريل/ نيسان الحالي، التقيت صبايا وشباباً سوريين يعيشون في تلك المدن منذ سنوات عدة، بعد انتقالهم من سورية إثر الحرب التي شنّها النظام السوري وحلفاؤه على السوريين. لفتني في هذا الجيل الشاب، ممن رأيتهم وتحدّثت معهم، تعلمهم لغة البلد المضيف وإتقانها إلى حد دخولهم في دوائر النظم المجتمعية والعملية. ولفتتني رغبتهم الواضحة في محاولة التصالح مع ذواتهم كما هي، أو بالأصحّ قدرتهم على التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم ورغباتهم وميولهم وأحلامهم ومشكلاتهم النفسية والعامة بخطابٍ متخفّف جداً من المظلومية، التي عادة ما يستخدمها الضحايا في آلية دفاع نفسية، قد تكون غير مقصودة أحياناً، لكن يمكن تبريرها لأسبابٍ عديدة، صارت لتصبح من السرديات السورية الشهيرة خلال العقد الماضي.
مما لاحظته أن هذا الجيل من السوريين ممن وصلوا إلى أوروبا في أوائل عشرينيتهم يتحدّثون عن سورية، وعن ذاكرتهم فيها، بصيغة الغائب الذي لا يرغبون أن يعود. يتحدّثون عنها بوصفها القاسية والصعبة التي لا تتسامح ولا تغفر ولا تقبل، بوصفها الرعب من الأحلام والخوف من الخوض في تجارب شخصية والخوف من الأخطاء ومن النتائج. يتحدّثون عن سورية المرعبة لا في السياسة فقط، بل ايضاً في المجتمع، في الذهنية التي كانت تحدّد مساراته، الذهنية القبلية المستبدّة التي لا تسمح بأي انزياح عن الحدود التي وضعتها، ولا تتسامح مع المنزاح، الذهنية التي تُتقن التقية وتروّجها، وتتقن الإنكار وتتعامل معه بوصفه الواقع، وتفرضه على الجميع بوصفه هذا الواقع. وهو ما يحتّم علينا، نحن أبناء الجيل الذي أنتمي إليه (جيل الآباء والأمهات)، أن نعيد التفكير في الآلية التي حكمت علاقتنا مع أبنائنا وبناتنا وتفهمّنا الفارق النوعي بين حياتنا وحياتهم، فهذا الفارق جعلهم يعيشون حياتين، واحدة لإرضائنا وأخرى تتناسب مع ما تفرضه معطياتُ ما بعد الحداثة من انفتاح مهول نحو العالم والكون ونحو الحريات بكل أنواعها، حرّيات أصابتنا بالصدمة والخوف الشديد إلى حد اعتبارها انحلالاً لا يتناسب مع مجتمعاتنا، وإلى حد إنكار أن تأثيرها قد يطاول أبناءنا ويغيّر في البديهيات التي تربّوا عليها.
كان يمكن للربيع العربي أن يكون فرصةً مناسبةً لإعادة صياغة العلاقات المجتمعية بين الأجيال في المجتمع العربي، بين الأهل وأبنائهم على وجه الخصوص، كان يمكنه أيضاً أن يكون فرصةً لردم الفجوة التي صنعها التقدّم التكنولوجي ووسائل الاتصال بين الأجيال العربية، خصوصاً في ما يتعلق بالخيارات والمستقبل والعلاقة مع الذات المستقلة فكراً وجسداً، لكن الافتراقات التي طاولت مساراته والفشل الذي أصابه كرّست تلك الفجوة، خصوصاً مع الواصلين في سنٍّ مبكّرة إلى العالم الغربي. كان هؤلاء الأكثر قدرة على الاندماج في المجتمعات الجديدة، سواء من حيث وعيهم ما يريدونه فعلاً لحياتهم، أو من حيث التطرّف اللاواعي في رفضهم القيم التي تلقّوها في طفولتهم، والتي يراها قسم كبير منهم سبباً في فشل مجتمعاتهم الأولى، وعجزها عن المشاركة في صنع المستقبل البشري، وعجزها أولاً عن تغيير واقعها الحالي السياسي والاقتصادي والقيمي.
لكن مع كل الفشل الذي طاول ثورات الربيع العربي، ومع كل ما حدث ويحدُث بعده، ثمّة إيجابياتٌ لا يمكن التغاضي عنها، لا تتعلق فقط بكشف آليات الاستبداد وطرق تحكّمه بالمجتمع، بل الأهم هو كشف الفجوة الكبيرة بيننا كمجتمعات ركيكة تحكمها أنظمة استبدادية فاشلة إلا في الفساد والاجرام، وبين مجتمعات الدول المتقدّمة المحكومة بنظم ديمقراطية، وتأثير تلك الفجوة على شبكة العلاقات المجتمعية في بلادنا؛ كذلك في إتاحة الفرصة لكثير من الشباب العربي في التعرّف، واقعاً لا افتراضاً فقط، على الثقافات الأخرى والاشتباك معها والسعي إلى تحقيق منجز ما فيها، فرديٍّ ربما، لكنه أيضاً منجز بشري سوف يصبّ أخيراً في بحر الحضارة الكبير.
يتصرف كثر من أبنائنا ممن يعيشون في الغرب حالياً كما لو كانوا أبناء تلك المجتمعات. وكثر منا، نحن آباءهم وأمهاتهم، نعتبر سلوكهم انسلاخاً عن هويتهم الأصلية. لكن علينا أن ننصت إليهم لندرك أنهم محقّون وأننا نحن من علينا أن نتفهّم ما أصابهم ونتقبل خياراتهم ونفرح بإنجازاتهم؛ لن نتمكّن من تغيير القيم التي تربّينا عليها بسهولة، ولن نتمكّن من نسيان سورية مثلهم. ما علينا فعله هو التباهي بهم، فهم يستحقّون أن يعيشوا بسلام وحرية.