سيد قطب المفكّر أم السجين؟

03 يناير 2023

(أنس عوض)

+ الخط -

لماذا نصوص سيد قطب الأكثر إشكالية وإثارة للجدل في الفكر الإسلامي الحديث؟ أسباب عدة، لعل أهمها ثنائية المفكّر والسجين، كتابات ما قبل السجن، وهي أغلب مشروع سيد قطب، ثم انقلابه على مشروعه بعد السجن في كتابات عدة أبرزها (وأخطرها) "معالم في الطريق"، وعودته بالحذف والإضافة إلى نصّيه "في ظلال القرآن" و"العدالة الاجتماعية في الإسلام". هنا نحن أمام كاتبَين، مشروعَين، شخصَين، نختلف معهما، معاً، خلافَين: الخلاف مع المفكّر سيد قطب في إجابتين لسؤال واحد، أما الخلاف مع السجين سيد قطب، فهو في سؤالين وإجابتين، وعالمين. المفكّر سيد قطب من أولاد رفاعة الطهطاوي، امتداد للخط الإصلاحي، النهضوي، المصري والعربي، ربما بـ"نفَس" مختلف، فرَضه سياق قطب السياسي والأيديولوجي، كما فرضته طبيعة قطب نفسه. أما السجين سيد قطب، فهو خطّ وحده، لا هو امتداد لمفكّري عصر النهضة، الإصلاحيين، أبناء المؤسّسة الدينية، ولا هو امتدادٌ لنقّادهم من المحافظين، أو العلمانيين. المفكّر سيد قطب تلميذ عباس العقاد، السجين تابع، تفوّق على متبوعه. أبو الأعلى المودودي، المفكّر ناقد، ابن مدرسة النقد الحديث، والسجين معارض سياسي راديكالي مغدورٌ من ثورة، أو انقلاب عسكري، كان العرّاب الأبرز له، المفكّر يرى في الفكر السياسي للعرب والمسلمين كائناً حياً، يتفاعل مع غيره من منتجات الفكر الإنساني، يؤثّر ويتأثّر، يصدّر ويستورد، وفق معاييره القيمية ومصالحه. ولذلك لا يتحرّج المفكر من تضمين نصوصه مصطلحاتٍ اشتراكية، يسارية، حداثية، حتى في تفسيره القرآن، فيما يعود السجين على ذلك كله بالحذف والإضافة والاستبدال بمصطلحاتٍ أخرى، ليس هذا مكانها أو موضوعها. المفكر يدعو قرّاءه إلى فتح نوافذهم، والمشي في الشوارع، والجلوس في المقاهي، أما السجين فهو يحبس قرّاءه في زنزانة النهار الأبيض والليل الأسود، وثالثهما العدم، السياسة عند المفكر دنيا وفقه ومصالح، والسياسة عند السجين دينٌ وعقيدةٌ وآخرة. المفكّر حر، والسجين سجين.
كان المفكّر حسن حنفي أبرز من فرّقوا بين نصوص قطب قبل السجن وبعده. استدعى سياق قطب، وقرأه في إطاره. من هنا، قال حنفي إنه تلميذ "سيد العدالة الاجتماعية" وليس "سيد معالم في الطريق". وأنه لو تبادل الأدوار مع سيد قطب، فدخل حنفي السجن وسافر قطب إلى فرنسا، لكتب حنفي "معالم في الطريق" وكتب قطب من "العقيدة إلى الثورة". (مشروع حسن حنفي المركزي). وهنا الفارق بين قراءتين لمشروع قطب: قراءة بحثية، وأخرى وعظية، قراءة تاريخية وأخرى نصوصية، قراءة علمية وأخرى شعبوية، قراءة المفكر وقراءة السجين.
أعلنت دار جسور للنشر إعادة إصدار الطبعة الأولى من كتاب سيد قطب "في ظلال القرآن"، وهو تفسير سيّد للقرآن، وقد صدر كاملاً قبل دخوله السجن، ثم عدّله سيد في زنزانته، واعتمد ورثته نسخة الزنزانة. وكان ما كان، تمنح النسخة الأصلية مؤرّخي الأفكار والمهتمين بتراث سيد قطب، وتأثيره، سلباً وإيجاباً، في الظاهرة الإسلامية المعاصرة، فرصةً حقيقيةً لإعادة قراءة قطب، وفهم الحالة القطبية، ثم الإسلام الراديكالي (الجهادي)، وكيف نشأ، وفي أي سياقٍ سياسي، وأيديولوجي. وتساهم، هذه النسخة، مع غيرها من الأدلة والقرائن التاريخية، في تقويض سرديات رائجة وغير دقيقة عن البدايات الحقيقية للإسلام الجهادي (وكيف وصلنا إلى داعش)، والتي شهدتها بداية الستينيات، وليس أواخرها، بعد هزيمة يونيو 1967، وبعد تأليف قطب "المعالم"، أو تعديله "الظلال" و"العدالة الاجتماعية"، كما هو رائج، وكأن التحوّلات الدينية والسياسية الكبرى تأتي نتيجة فكرة أو كتاب!
تحرم طبعة "الظلال" الأصلية أطراف الصراع حول قطب، أبناء طبعة الزنزانة وخصومهم، قراءات الاستسهال والاستعجال  "والاستهبال"، وتمنحهم نسخة أكثر وضوحاً، من كتابات ما قبل السجن الأخرى، وكاتباً آخر لم يعرفوه، ولا أظنّهم يريدون، وتضع متّهمين حقيقيين في قفص الاتهام إلى جوار قطب، ومسؤولين آخرين عن الظاهرة القطبية، بعضهم ما زال على كرسيّه، يرتكب الجريمة نفسها، وينتج راديكاليين آخرين، ثم يسجنهم أو يقتلهم إنقاذاً لزبائنه من منتجاته.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان