ثورة "أثينا" أو الربيع الفرنسي

14 أكتوبر 2022
+ الخط -

لا تَخرج جلُّ بدايات الثّورات والانتفاضات عن المسارِ المعتاد: غليانٌ يُفجّره عملٌ عنيفٌ تجاه جزء من الفئة المنتفِضة، التي تكون عادة فئة مسحوقة، دُفع بها إلى قاع المجتمع، أو إلى هاوية الفقر. هذا بالضّبط ما حدث في حيّ Athéna (أثينا) في ضواحي باريس، حيث يثور المهاجرون ضدّ العنف العنصري، بعد مقتل إيدير، وهو طفل من أصل جزائري، على يد أشخاصٍ يرتدون زي الشّرطة الفرنسية.

يعبّر فيلم Athéna (أثينا) عن واقع مجتمع ومستقبله، هو من أكثر المجتمعات الأوروبيّة رفضاً للآخر، خصوصا إذا كان فقيراً ولونه أغمق مما يجب. وهي من أكثر التّناقضات في مجتمع يشكّل المهاجرون قرابة ربع سكانه. جلّهم من الشّباب والأطفال، فنحو 40% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات وأقل، لديهم صلة بالهجرة على مدى ثلاثة أجيال. بينما الدّم الأوروبي الفرنسي يميل إلى الشيخوخة.

وجه التناقض أن عنف فرنسا تجاه ذوي الأصل الأفريقي أو العربي، ضربات في الحائط، أو نكران أعمى للواقع، بالنظر إلى ما يقدّمه المهاجرون وأبناؤهم لفرنسا، وهم مستقبلها في جلّ المجالات. يقدّم الفيلم، الجميل فنّياً، صورة لأحد تجلّيات الانفصام الفرنسي، فبعد ضرب مجموعة من الأشخاص، يرتدون ملابس رجال الشّرطة، إيدير حتى الموت، قاد "كريم" أحد أشقّائه تمردّاً على الشرطة، برفقة أبناء الحي. هاجموا أحد مراكزها، ثم جعلوا من حيّ "أثينا" ذي الأغلبية من أصل أفريقي، موقع مواجهة شرسة مع رجال الشرطة.

"لماذا لم يدقّوا الخزان"؟ يُطرح السؤال في كلّ تراجيديا: لماذا لم ينتظر شباب "أثينا" نتائج التّحقيق؟ لماذا لم يصدّقوا تصريحات الشرطة؟ لماذا اقتحمت الشّرطة الحي، بدل أن تحاور المحتجّين؟ مُعسكر المخرج رومان غافراس كان واضحاً، فهو يعلن صراحةً عن دعم المهاجرين، في صيغة ملحميّة لصراعهم مع الأمن الفرنسي الذي لم يفرّق بين المحتجين، أو غير المحتجّين من سكّان الحي، فاعتَقل كل الشّباب، كما تفعل الأنظمة الشّمولية حين تندلع الاحتجاجات، تعتقل شباب المدينة كلهم، حتى الذي خرج لشراء الخبز، أو الحليب لأطفاله.

تمارس الشُّرطة العنف، لتُحوّل المواجهة من سلميةٍ إلى عنيفةٍ بمظاهر مسلّحة وقنابل المولوتوف، لكن المحتجّين لم يقتلوا أحداً. وفعلت الشّرطة، ليؤدّي ذلك إلى نتائج مأساوية. وبدل الابن الواحد، مات الأربعة؛ الجندي "عبدل" و"مختار" تاجر المخدرات، و"كريم" الشاب الثائر، وبالطبع الأصغر "إيدير". يشغلنا بشدّة موقف الأم التي فقدت، في يوم واحد، أولادها الأربعة. لعل الأمّ المفجوعة ذات الأصل الجزائري، التي يُقتل أبناؤها ظُلماً، صورة رمزية لفرنسا، التي تملك وجهين؛ وجها يقتل أبناءها وآخر يبكيهم.

تبيّن بالفعل أن المهاجمين ليسوا من عناصر الشّرطة، لكن لا فرق بين العنصريّة الرسمية التي تحاول محو هوية المهاجرين، ومعاقبتهم على وجودهم هناك، وغير الرسمية التي تقتلهم وترفضهم. تزور إسبانيا مثلاً، وهي الدولة الأكثر معاناة من الهجرة غير النظامية، وينتشر المهاجرون في كلّ كيلومتر منها. تجدهم في وسط المدينة، وفي أماكنها السّياحية، وفي الإدارة وغيرها. وكثيرون منهم يعيشون في الضّواحي، في ظروفٍ مُزريّة. لكن أحداً لم يتحدّث عن خطرهم على المجتمع الإسباني و"قيمه العليا". كأنّ المهاجر أو أبناءه من حفدة آكلي لحوم البشر، أو القراصنة. لا يفرّق الإسباني بين الأفريقي وغيره. ولن تحدُث فيه مواجهةٌ بين ذي الأصل الأفريقي والأوروبي.

أما نهاية المعركة التي تخيّلها مخرج فيلم أثينا، فأتركها لمن لم يشاهدها بعد. لكن لكلّ معركة نهايتها الخاصّة، وإن تشابهت مع أخرياتٍ في البدايات، فهناك نهاية مؤقتة تعد ببدايةٍ قريبة، ونهاية يعقبها سكون طويل. وإن كان أحدٌ ما يعرف كيف تبدأ الثورات من حيث لا يتوقع أحد، وتنتهي في غفلة عن الجميع... فهم نحن سكّان هذه المنطقة الممتدّة من المحيط إلى الخليج. عشنا ثورات بلا عدد، غير أن مرارة الواقع كانت تغلب الحلم بالحرّية والحياة الكريمة. ولكن من يدري، لعل التّغيير يأتي من طرقٍ أخرى لا تنتظر انفجار الأوضاع.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج