الأزمة السياسية في تونس ... تداعيات اتساع المعارضة السياسية لحكم سعيّد وآفاقها

12 فبراير 2023

تونسيون يحتشدون متظاهرين في العاصمة ضد قيس سعيّد في ذكرى الثورة (14/1/2023/Getty)

+ الخط -

شهدت تونس، في الأسابيع الأخيرة، تناميًا في التحرّكات الاحتجاجية المعارضة بالتوازي مع استفحال الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وإصرار الرئيس قيس سعيّد على الانفراد بالقرار، والمضي في خريطة الطريق التي صاغها بنفسه، ورفض أي حوار مع معارضيه أو شراكة أو توافق مع مؤيدّيه عليها. وعلى الرغم من اتساع الجبهة المعارضة وإجماع أغلب الطيف السياسي على خطورة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، فإن الحراك المعارض ظلّ يفتقر إلى استراتيجية واضحة ومتوافق عليها، لإرغام الرئيس على التراجع عن خطواته الانقلابية، والعودة إلى المسار الديمقراطي.

فشل سياسات الرئيس واتساع المعارضة
شهدت الأسابيع الأولى بعد انقلاب الرئيس سعيّد على الدستور، في 25 تموز/ يوليو 2021، غيابًا لأي تحرّكات ميدانية للمعارضة؛ إذ اكتفت الأحزاب التي اعتبرت ما جرى "انقلابًا" بإصدار البيانات الصحفية، مقابل مشهد سياسي وإعلامي رسمي طغى عليه خطاب شعبوي يقوم على تحقير عشرية الانتقال الديمقراطي التي جرى وصفها بـ "العشرية السوداء"، وتحميل الفاعلين فيها مسؤولية الإخفاقات التي شابتها، ونعتهم بـ "اللصوص" و"الخونة" و"العملاء"، والتبشير بعهد جديد قوامه الرخاء الاقتصادي، و"محاسبة الفاسدين"، واسترجاع "الأموال المنهوبة"، وغير ذلك من الشعارات. لكن المشهد بدأ في التغيّر، سريعًا، على وقع استفحال الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وانفراد الرئيس سعيّد بالقرار ورفضه أي شراكة حتى مع الأطراف التي دعمت انقلابه.
بالتوازي مع سياسة الانفراد بالقرارات، عمد الرئيس سعيّد إلى توظيف أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والقضائية لملاحقة معارضيه والتضييق عليهم؛ إذ جرى اعتقال شخصيات سياسية عديدة وإحالتها إلى المحاكم العسكرية بتهمٍ تتعلق بنشاطاتها السياسية، وتعرّض الإعلاميون والمدوّنون أيضًا للتضييق وزجّ أعدادٍ منهم في السجون بتهمة "المسّ بهيبة الرئيس". وصدر مرسومٌ رئاسيٌّ ينصّ على فرض عقوباتٍ ثقيلة على نشاطات تتعلق بحرية التعبير وتداول المعلومات، ومنعت وسائل الإعلام العمومية من استضافة ممثلي الأحزاب وتغطية نشاطات المعارضة.

إثر الدور الأول من الانتخابات البرلمانية الذي جرى، في 17 ديسمبر 2022، صعّدت جبهة الخلاص هجومها على الرئيس سعيّد

وعلى المستويين، الاقتصادي والمعيشي، بدا جليًّا أن الوعود التي أطلقها سعيّد لم تكن تستند إلى أي معطياتٍ موضوعية، فقد تفاقمت حدّة الأزمة الاقتصادية، وتراجعت قيمة الدينار، وشهدت الأسواق شحًا في جل المواد الاستهلاكية وارتفاعًا غير مسبوق في أسعارها واضطرابًا في التزويد بالمحروقات، وفقدانًا لأصناف كثيرة من الأدوية الضرورية والحيوية، ورفعًا تدريجيًّا للدعم عن السلع التموينية والماء والكهرباء. ودفعت هذه الإخفاقات والممارسات إلى انحسار الحاضنة السياسية والشعبية التي انساقت مع خطاب الرئيس الشعبوي في البداية، وتوسع جبهة المعارضة لسياساته.

معارضة جذرية، لكنها مشتّتة
يعدّ حراك "مواطنون ضد الانقلاب"، الذي تشكل من شخصيات سياسية وفكرية وأكاديمية من توجهات مختلفة، أول حراك ميداني معارض للانقلاب على الدستور؛ إذ نظم أولى تظاهراته الاحتجاجية في بداية أيلول/ سبتمبر 2021، وتمكن من حشد أعداد معتبرة من مناهضي سعيّد في جميع التحركات التي دعا إليها.
وانضم حراك "مواطنون ضد الانقلاب" إلى "جبهة الخلاص الوطني" التي أعلنها أحمد نجيب الشابي مع عدد من الشخصيات السياسية، في 31 أيار/ مايو 2021، وضمّت في صفوفها حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس وحراك تونس الإرادة وحزب أمل ونوابًا وحقوقيين وشخصيات مستقلة وتنظيمات سياسية ومدنية. ومنذ تأسيسها، تبنت جبهة الخلاص خطابًا معارضًا، جذريًا، للرئيس سعيّد، واعتبرت جميع قراراته فاقدة للشرعية، مؤكدة على أن دستور 2014 هو "المرجع الوحيد للشرعية"، وأظهرت قدرة على التحشيد في العاصمة والمدن الداخلية.
في إثر الدور الأول من الانتخابات البرلمانية الذي جرى، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022، وشهد مقاطعة واسعة، صعّدت جبهة الخلاص هجومها على الرئيس سعيّد، وأعلنت، بوضوح، ولأول مرة، أنها لم تعد تعترف به رئيسًا شرعيًا للبلاد، وطالبته بالرحيل وتسليم السلطة لأحد القضاة "المشهود لهم بالنزاهة" للإشراف على انتخابات رئاسية مبكرة.

تصريحات قياديي اتحاد الشغل ما زالت تنحو إلى تحميل حكومة نجلاء بودن وزر تردّي الوضع الاقتصادي والمعيشي، من دون الإشارة إلى أن الحكومة هي حكومة الرئيس

إلى جانب جبهة الخلاص، شهدت الساحة السياسية المعارضة، في 28 سبتمبر/ أيلول 2021، تشكيل جبهة تحت اسم "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية"، ضمّت في صفوفها حزب التيار الديمقراطي وحزب العمال والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والحزب الجمهوري (ويتحمّل بعضها مسؤولية المشاركة في الدعوة للانقلاب الرئاسي على البرلمان باستغلال بنود محددة من الدستور قبل أن تدرك فداحة ما جرى). وتشترك تنسيقية الأحزاب مع جبهة الخلاص في معارضتها للرئيس سعيّد، وفي اعتبار ما حدث في 25 تموز/ يوليو انقلابًا، وفي عدم الاعتراف بشرعية سعيّد وقراراته، غير أنها تحمّل حركة النهضة وشركاءها مسؤولية الإخفاقات التي شهدتها عشرية الانتقال الديمقراطي، وترفض الالتقاء معها في أي إطار سياسي أو حراك ميداني.

اتحاد الشغل: من التأييد الضمني إلى المعارضة
أبدى الاتحاد العام التونسي للشغل (كبرى النقابات العمالية) تفهّمًا لقرارات الرئيس سعيّد في 25 تموز/ يوليو، واعتبر قياديوه أن سوء الأوضاع السياسية والاجتماعية كان يتطلب تدخلًا من الرئيس لـ "تصحيح المسار". وحافظت النقابات العمالية على هدوء الجبهة الاجتماعية على امتداد أشهر؛ فقد تراجعت موجة الإضرابات المطلبية التي واظبت عليها منذ عام 2011، غير أن خطاب اتحاد الشغل تجاه قرارات الحكومة بدأ في التغير، تدريجيًّا، في إثر إعلان سعيّد خريطة الطريق؛ إذ قاطعت المنظمة جلسات الحوار التي سبقت الاستفتاء على الدستور، لكن من دون التماهي مع موقف المعارضة التي رفضت المسار برمته، مقترحة "خيارًا ثالثًا"؛ وهو الاقتراح الذي قابله سعيّد بالتهكم، مؤكدًا أنه لا يلقي بالًا إلى "الخيار الثالث ولا الرابع ولا الخامس".
وبتسارع قرارات سعيّد الانفرادية؛ بما فيها القرارات الاقتصادية والاجتماعية، وشروع الحكومة في تنفيذ حزمة "الإصلاحات الاقتصادية" المطلوبة من صندوق النقد الدولي، على غرار رفع الدعم عن السلع التموينية والخدمات ووقف التوظيف في القطاع العام، تصاعدت حدة خطاب الاتحاد تجاه المسار الذي يسلكه الرئيس. غير أن تصريحات قياديي الاتحاد ما زالت تنحو إلى تحميل حكومة نجلاء بودن وزر تردّي الوضع الاقتصادي والمعيشي، من دون الإشارة إلى أن الحكومة هي حكومة الرئيس، وأنه هو من اختار أعضاءها وهو من يقيلهم وهو من يحدد سياساتها ويشرف على عملها، وفق المراسيم التي أصدرها والدستور الذي صاغه بمفرده.

تتزايد المؤشّرات على أن قاعدة الدعم الشعبي للرئيس سعيّد تتقلص بسرعة، قياسًا على ما كان عليه الوضع عند انقلابه على الدستور

وبالرغم من إقرار الاتحاد بأن النهج الانفرادي لسعيّد أدى إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، وتهديده باللجوء إلى الشارع للتصدّي لهذه الخيارات، فقد أعلن قياديوه رفضهم التعامل مع من يصف ما جرى في 25 يوليو/ تموز بـ "الانقلاب"، في إشارة إلى جبهة الخلاص ومكوّناتها. وهو ما بدا في ترويج "المبادرة الوطنية للإنقاذ" التي أعلن الاتحاد التشاور في شأنها مع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعمادة المحامين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعرضها على الرئيس سعيّد. وبالرغم من امتناع الاتحاد عن الخوض في تفاصيل هذه المبادرة، فإنه أكّد، ضمنيًّا، أنها لا تتقاطع مع المبادرات التي تنزع الشرعية عن الرئيس سعيّد، وترى فيما جرى "انقلابًا"، وأن سقف المعارضة التي تتبنّاها المنظمة محدودٌ بإصلاحات في المسار الحالي، بهدف "إنقاذ البلاد وفتح طريق جديد يعيدها إلى سكّة البناء الديمقراطي والمؤسّساتي ويضعها من جديد على طريق التنمية والعمل والبناء بعيدًا عن كلّ مظاهر الاستبداد أو العودة إلى الحالة التي كانت عليها البلاد قبل 25 جويلية 2021". ويرفض الاتحاد الاعتراف بمسؤوليته الجزئية عن مجريات الأمور في تلك الفترة واستقوائه على النظام الديمقراطي في مقابل مسايرته سياسات القوة الحالية، وتأزيمه العلاقة مع الحكومات المنتخبة المتتالية ومبالغته في الدعوة إلى الإضرابات وإعاقته أي قوانين تشجع على الاستثمار.

معارضة متنامية وتوافق مفقود
تتزايد المؤشّرات على أن قاعدة الدعم الشعبي للرئيس سعيّد تتقلص بسرعة، قياسًا على ما كان عليه الوضع عند انقلابه على الدستور. فقد شهدت جميع محطات خريطة الطريق التي أعلنها، منذ أكثر من سنة، مقاطعة كبيرة، وانحدرت نسبة المشاركة إلى11 في المئة في الدور الأول والثاني من الانتخابات البرلمانية التي جرت في كانون الأول/ ديسمبر 2022، وكانون الثاني/ يناير 2023، وانفض عنه جل مؤيديه من الشخصيات السياسية والأكاديمية التي روّجت قراراته في البداية، وغادرت أحزاب سياسية موقع التحفظ لتلتحق بصف المعارضة كما هو الحال مع بعض مكونات تنسيقية الأحزاب، بينما صعّد اتحاد الشغل من لهجته نائيًا بنفسه عن قرارات الرئيس الانفرادية، ومحذرًا من أنها تقود البلاد إلى مآلات خطيرة.
وبالتوازي مع ذلك، تشهد البلاد مزيدًا من التأزّم في الوضع الاقتصادي والمعيشي، في ظل افتقار حكومة الرئيس إلى أي برنامج واقعي لوقف التدهور، وعجزها عن إيجاد موارد لتمويل العجز الكبير في الموازنة. ومع ذلك، لا يبدو الرئيس في وارد التراجع عن مساره الانفرادي الإقصائي ولا عن توظيف أجهزة الدولة الأمنية والقضائية، في تصفية الحساب مع خصومه السياسيين الذين كان آخرهم قادة حزب ائتلاف الكرامة، الذين أحيلوا إلى المحاكم العسكرية وزُجّ بهم في السجون؛ ما أثار جدلًا حقوقيًا وقانونيًا على خلفية الخروق التي شابت محاكماتهم.

يبدو الاختلاف كبيرًا في السقف الذي يستهدفه كل مكون من مكونات المعارضة السياسية والاجتماعية

لا شك في أن استفحال الأزمة الاقتصادية والمعيشية وتعويل الرئيس على الخيار الأمني والقضائي في التعامل مع المعارضة، ورفضه أي شراكة أو توافق، وإصراره على اعتبار الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية محطات ناجحة بالرغم من المقاطعة الشعبية غير المسبوقة، كلها مؤشرات تدفع إلى توسع جبهة المعارضة، وتدفع أيضًا إلى توقع رفض الرئيس أي مبادراتٍ للحل بما فيها مبادرة اتحاد الشغل، الذي قد يجد نفسه أمام خياراتٍ محدودة، بينها النزول إلى الشارع واللجوء إلى الإضرابات العامة، لاستعادة مكانته بصفته فاعلًا مهمًا في المشهد السياسي.
مع ذلك، ما زالت المعارضة، بالرغم من توسّعها، أسيرة تجاذباتها السياسية والأيديولوجية؛ ما يجعلها عاجزة عن التوافق على خريطة طريق ومشروع مرحلي لاستعادة مسار الانتقال الديمقراطي، ومعالجة الانهيار الاقتصادي والمعيشي والخدمي. وبالرغم من التقاء مكوناتٍ مختلفة في جبهة الخلاص وأخرى في تنسيقية الأحزاب، فإن الجبهتين ظلتا بعيدتين عن التعاون. وقد بدا ذلك جليًّا في إلغاء التنسيقية التظاهرة التي كانت تنوي تنظيمها في الشارع الرئيس بالعاصمة بمناسبة ذكرى الثورة، رفضًا، على ما يبدو، للالتقاء بتظاهرة جبهة الخلاص في المكان ذاته.
فوق ذلك، يبدو الاختلاف كبيرًا في السقف الذي يستهدفه كل مكون من مكونات المعارضة السياسية والاجتماعية. ففي حين تتحد جبهة الخلاص وتنسيقية الأحزاب في الدعوة إلى تغيير جذري، يؤدي إلى رحيل الرئيس سعيّد وإن اختلفتا في البديل، يكتفي اتحاد الشغل، حتى الآن، بالمطالبة بتعديلات تحت سقف 25 تموز/ يوليو.

خاتمة
تشهد تونس، بعد نحو عام ونصف العام على الانقلاب الذي نفذه الرئيس قيس سعيّد على الدستور، اتساعًا في جبهة المعارضة، وتقلصًا في الحاضنة الاجتماعية والسياسية للرئيس؛ جرّاء استفحال الأزمة الاقتصادية والمعيشية، إضافة إلى عودة سياسة القمع الأمني وتوظيف أجهزة الدولة في التعامل مع المخالفين، فضلًا عن انفراد الرئيس بالحكم ورفضه أي شراكةٍ حتى مع الأطراف التي ساندته في انقلابه. ويُعَدّ تنامي التحرّكات الاحتجاجية، السياسية والمطلبية، وقدرة المعارضة على الحشد، والمقاطعة الواسعة التي شهدها الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية، مؤشرًا دالًا على ذلك. مع ذلك يستمر الرئيس في اتباع النهج الذي سلكه في تموز/ يوليو 2021، مستغنيًا عن الدعم الشعبي، ومكتفيًا كما يبدو باستمرار دعم جهاز الأمن والجيش له. وتظل أطياف المعارضة أسيرة تجاذباتها السياسية والأيديولوجية وعاجزة عن التوافق على مشروع مرحلي لاستعادة مسار الانتقال الديمقراطي، وما زال اتحاد الشغل مترددًا في حسم موقفه ومكتفيًا، حتى الآن، بسقف مطلبي إصلاحي ضمن مسار سعيّد؛ ما يفتح المشهد على احتمالات عدة من بينها انفجار الشارع غير المؤطّر بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية، ما قد يقود إلى اصطدامه بأجهزة الدولة الأمنية.