إبريق القهوة

إبريق القهوة

20 ابريل 2022
+ الخط -

أحبّ كثيرا الارتباط بالأشياء والأماكن، رغم أن علماء النفس يحذّرون من مغبّة التعوّد. أما رجال الدين فينادون بالتنعم والتخوشن لأن النعم لا تدوم. وبعيدا عن هؤلاء وأولئك، أنت تجد نفسك مرتبطا بـ "إبريق القهوة"، أو تلك العبوة المعدنية المحترقة الأطراف الخارجية، بفعل اللهب والتي حاولت تنظيفها كثيرا، ولكنك لم تفلح أو أن محاولتك لم تكن جادّة، فأنت تحب مظهرها هذا الذي يعدّ من ضمن طقوس إعداد قهوتك الصباحية. ولكن لأن كل شيء يفنى ويتآكل، فقد استيقظت ذات صباح، وقد تآكلت ذراعها بسبب كثرة تعرّضها للحرارة، وقبل أن تخرج بحكمةٍ عن فناء المعدن مع الزمن فكيف بجسم الإنسان، وغيرها من الحكم التي تقنع بها نفسك بعبثية الحياة، فقد قرّرت قرارا جريئا، الذهاب إلى متجر شهير ببيع الأدوات المنزلية وشراء إبريق جديد للقهوة.

وهكذا كنت أدخل إلى المتجر الشهير، وأجد نفسي بين طوفان أنثوي بامتياز، فقد صادف أن شهر رمضان كان على الأبواب، وقد توافدت ربّات البيوت لتجديد أدواتهن المنزلية، وخصوصا تلك المعدّة للتقديم في الولائم والسهرات، وتفنن في الاختيار والمفاضلة بين المعروضات وسؤال بعضهن بعضا عن الأذواق والطرز الحديثة، ولم يغفلن الاستعانة بصور جمعنها من صفحاتٍ متخصّصة على مواقع التواصل الاجتماعي. وهنا اكتشفت أن زمناً طويلاً قد مرّ، ولم أذهب لشراء أدوات طعام ومعدّات طبخ مثل الأواني والأباريق والأكواب والفناجين. وبدأت أعصر ذاكرتي التي لم تسعفني بالطبع لكي أتذكّر آخر مرة ابتعت مثل هذه الأشياء التي تتبارى النساء الآن أمامي لشرائها، بسبب عروض التخفيضات التي أعلن عنها المتجر الشهير، تزامنا مع مناسبةٍ من المفروض أن تكون دينية روحانية.

يتهافت المواطنون على تطبيق أو ممارسة عاداتٍ بعينها، وتميل ربّات البيوت إلى الشراء غير المبرّر، ولمجرد شهوة الشراء أو للتفاخر، إلى درجة الانزلاق إلى هاوية الديون والقروض، والحرص على شراء أطعمة ومواد غذائية أيضا خاصة بطقوس شهر رمضان، بحيث يعتقد الناس أن الشهر لن يمرّ، بفطوره وسحوره، من دونها، في حين أن هناك أصنافا يجمع الجميع على أنها لا تمسّ على المائدة، ولكنها من باب العادة تجد لها مكانا عليها، ففي الغالب، ترك التهافت آثاره على أطفالنا، بحيث أصبح ذوقهم وذائقتهم في الطعام وعاداتهم الغذائية لا تحمل أدنى الصحة أو السلامة، وليست إلا من باب التعوّد والتقليد والركض خلف الأسماء الشهيرة لصنّاع الطعام، والأجهزة، وكل متطلبات الحياة العصرية على حد سواء.

يمكن أن نتتبع أثر مثل هذه العادات وتكاثفها بحيث تستغل سياسيا، حين نجد أن الطفل الذي اعتاد على تناول البيتزا وأنواع معينة من الجبن المصنّع المتعدّد الأسماء كعلامات تجارية شهيرة، وحين يكبر فهو يعتاد شرب أنواعٍ من القهوة التي يتميز بها متجر شهير بعينه. وهكذا، سيكون إيقاع العقوبات الاقتصادية على البلد الذي يعيش فيه هذا الطفل ثم المراهق أو الشاب سهلا. ولذلك نجد أن حرمان الشعوب من هذا النمط من الحياة يعدّ نوعا من العقوبات الشديدة، فمثلا من أنواع العقوبات المفروضة على روسيا حاليا إغلاق فروع "ماكدونالدز" و"ستار باكس" ومنصة "نتفليكس." وفي المقابل، لو تتبعنا نمط حياة طفل في أفغانستان سنجد أنه قد حوّل بلاده إلى بلد من الصعب عقابه اقتصاديًا، لأنهم لم يعتادوا على الحياة بوجبات من "ماكدونالدز" ولا قهوة من "ستار باكس" مثلا، ولا يزالون يعيشون في جغرافيا المجتمع الأفغاني البسيط.

وبعيدا عن السياسة والاقتصاد، وعودة إلى المواطن البسيط الذي يؤثر ويتأثر، فأنت قد تجد قلةً من الناس تؤمن أن الإسلام في جوهره لا يمنع الرفاهية المتوسطة، وفي الوقت نفسه، هي ليست مع عيش حياة البداوة أو الرجعية، وعدم مسايرة التطور، وليست مع اللهاث خلف الكماليات. ولذلك، أنا من القلة التي ارتبطت سنوات بإبريق قهوة صغير، يكشف تحدّيا ساذجا لمجتمعٍ لا يشبهها.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.