بعد "شارلي إيبدو": العلمانية على رأس قيم الجمهورية الفرنسية

11 فبراير 2015
(Getty)
+ الخط -
لم تكن الأرقام التي أظهرها استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه المركز الفرنسي للرأي العام حول قيم الجمهورية التي تعني عموم الفرنسيين، مفاجئة. حيث قفزت العلمانية لتحتلّ سلّم أولويات القيم التي أرستها الجمهورية منذ عام 1905 الذي شهد تجدّد حركة التحفّز ضد رجال الدين مما أدى إلى الإعلان عن المرسوم القاضي بالفصل بين الكنيسة والدولة.

ورغم اختلافهم في تعريف مفهوم العلمانية وتشعباتها وطريقة ممارستها، يجمع الفرنسيون، اليوم، على أنّ النسق الاجتماعي والسياسي والثقافي بعد أحداث "شارلي إيبدو" يفرض تبنّي علمانية تفاعلية تعكس عملية تطورية، تفضي إلى أن يكون نشاط المسلمين في فرنسا منسجماً مع القوانين العلمانية فى البلاد وألّا يكون له علاقة بالمؤسسات الإسلامية الموجودة في الوطن الأم.

وبحسب إحصاء الـ IFOP الذي أجري بين الثالث والخامس من فبراير/شباط الحالي، فإنّ 46 في المئة من الفرنسيين يعتبرون أنّ العلمانية هي القيمة الجمهورية الأهم اليوم. وتصدّرت العلمانية لائحة القيم الجمهورية للمرة الأولى منذ سنة 2008، العام الذي شهد نقاشاً مستفيضاً حول مفهوم "العلمانية الإيجابية" وكان حق الاقتراع العام المباشر يعتبر أولوية بالنسبة لكثير من الفرنسيين (41 في المئة مقابل 30 في المئة للعلمانية سنة 2008).
فيما أظهرت الأرقام أنّ 8 في المئة صوّتوا لحقّ التجمع مقابل 5 في المئة لحق إنشاء الأحزاب السياسية و5 في المئة لحرية العمل النقابي.

والحال أنّ العلمانية بالنسبة للذين شملهم الاستفتاء تبدو مفهوماً واسع الأفق، ففي الوقت الذي يرى فيه أكثر من النصف أنّ العلمانية تعني حرية ممارسة الشعائر والطقوس الدينية دون التعرّض إلى معتقدات الآخرين فإنّ 25 في المئة من الفرنسيين يرون في العلمانية كل رفض لأية مظاهر دينية في الأماكن العامة (الحجاب، الصليب، القلنصوة اليهودية). ويعتبر قسم آخر أنّ ممارسة العلمانية الحقّة تقضي بعدم مشاركة الدولة في أي شكل من أشكال بناء أماكن العبادة.

وتطوّرت معايير العلمانية في فرنسا في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية إلى حدّ إشعال جدل واسع داخل المجتمع الفرنسي، حيث في عام 1989 أصدرت المحكمة الفرنسية العليا قراراً يحظر الإشارات الدينية في المدارس ويعتبرها غير قانونية. وفي بداية الألفية الحالية قام الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، بدعم قرار يحظر الحجاب والقلنصوة اليهودية، إضافة إلى الصلبان الكبيرة في المدارس. إلا أنّه يعتقد أنّ هذه القوانين اللائكية تستهدف الإسلام أكثر من أي ديانة أخرى في فرنسا. ويربط البعض تنامي المطالبة بتطبيق معايير العلمانية مع تنامي المشاعر المعادية للإسلام أو بصفة أخرى الإسلاموفوبيا.

من جانب آخر يتّجه الكثير من السياسيين إلى استغلال هذا التخوّف تجاه الإسلام واستعماله في حملاتهم الانتخابية على غرار حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف المحسوب على مارين لوبان الذي أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة شعبيته المتزايدة لدى الشعب الفرنسي، إضافة إلى حزب الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، الذي يحاول استمالة شريحة الفرنسيين التي تؤمن بمعايير العلمانية لتكون في صلب المواطنة واحترام حقوق الإنسان.

في هذا السياق يتّجه الصراع العمودي بين اليمين واليسار ليأخذ منحى آخر في فرنسا وأوروبا بشكل عام بعد هجمات باريس. ويمكن القول إنّ جزءاً كبيراً من أقصى اليمين بات يتّفق مع من هو في أقصى اليسار، ويختلف مع الحالة الوسطية عند الطرفين في طريقة التعاطي مع ملف العلمانية والهجرة والجاليات الإسلامية في فرنسا.
وعليه فإنّ إجماع الفرنسيين على العلمانية - وإن اختلفوا في تعريفها- كقيمة جامعة تحتل أولوية في سلّم مبادئ الجمهورية يبدو ترسيخاً لتمسّكهم بثالوث، الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.