"لايت إن بابيلون".. أغنيات الطير المُهاجر

10 يوليو 2017
(من صفحة الفرقة على فيسبوك)
+ الخط -

بدأ الأمر بفيديو المصور بجودة عالية، لكن بلا احترافية، في إسطنبول، لعازف سنتور بمصاحبة فتاة تبدو هندية الهيئة والملامح، تعزف الإيقاع على دجيمبي؛ بينما تغني بكثير من الجهد، وقليل من الإصابة، بعفوية محببة.

انتشر الفيديو منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات على فيسبوك، ليتعرّف الجمهور إلى فرقة "لايت إن بابيلون" Light in Babylon، خصوصًا في العالم العربي، في إطار موجة إعادة إحياء ثقافة الهيبي والغجر بين الشباب، والتي أصبحنا نرى تقمصًا كاملًا لها عبر ارتداء البنطال الواسع والألوان الكثيرة غير المتناسقة، والكحل الكثيف والشَّعر المرسل على طبيعته والأساور جالبة الحظ لليدين، والخلاخيل، والإكسسوارات الصحراوية للجنسين التي تقترن في الأغلب بتيار الرغبة في العيش في الصحراء (وهو تيار غريب على بلد مأهول في المناطق الزراعية منذ الأزل، مثل مصر). سبب آخر ساهم في انتشار الفيديو، كان إيقاع الأغنية وطريقة الغناء الغريبة نسبيًا على العالم العربي، لكنها ليست غريبة على من ألِف الموسيقى التركية والفارسية. سببٌ أخير ساعد الفيديو على الانتشار؛ هو اللغات المستخدمة في الغناء –خصوصًا العبرية التي لا تخطئها المسامع، والتركية أحيانًا.

على موقع الفرقة، نجد الترجمة الإنكليزية للكلمات المأخوذة –حسب إِشارة الموقع- من كتاب التوراة (التناخ)، وهذه ترجمة لمقطع منها:

"في سريري لأسبوع
ما زلت أنتظر الذي تحبه روحي
ولم أجده بعد
أبحث في كل شوارع المدينة عن الكذبات الكاملة ولم أجده بعد
الحراس الذين يحاصرون المدينة وجدوني
ولكن حبي لم أجده بعد".

الغريب أن الفرقة نشرت أغنية لها في 2011، ولم تلفت النظر، ربما لضعف مستوى الغناء والملل الذي سببه تكرار نفس الجملة، ولفقر اللحن وغياب الصورة المصاحبة. في 2013، أصدر الفيديو هاوٍ بجودة أفضل من ناحية الغناء والتسجيل، وتصاحبه صورة. وهي كأغلب أغنيات الفريق، تتحدث عن الحبيب الضائع الذي تنتظره، أو تبحث عنه، إلى جانب تناولها ثيمة المدينة.

قليلًا ما تجاوزت الفرقة فخ التكرار بحجة العفوية، متطرقة إلى موضوع مثل "نساء طهران": "لا يغطين ابتساماتهن ويغنين، مثل أمي. ويومًا ما، سآتي مثل طير مهاجر، لأغني لكم في طهران".

أصدرت "لايت إن بابيلون" ثلاثة ألبومات (2010، 2013، 2016)؛ غلب عليها الإيقاع الواحد المتكرر (تقريبًا ثلاثة أنواع إيقاعية تجمع كل ما أنتجته الفرقة حتى الآن). أغانٍ لجأت فيها الفرقة للإيقاع المقسوم، المشهور عربيًا، ومحاولات لإعادة تقديم أغان مثل IMAGINE، كشفت أن الموسيقيين قادرين على فعل أكثر بكثير من المصاحبة لموهبة غنائية محدودة مثل المغنية التي جعلت من الأغنية الخالدة عملًا متواضعًا رغم جودة الموسيقى المصاحبة.

تحولت التجربة الارتجالية بالدرجة الأولى إلى فرقة/مجموعة شبه ثابتة، تتكون من ثلاثة أساسيين: المغنية الإيرانية الأصل ميشال إيليا كمال، ولاعب السنتور التركي ميتيهان كيفتكي، إلى جانب لاعب الجيتار الفرنسي جوليان ديماركيه، وتقاطعات مع لاعب الإيقاع ستيورات ديكسون ولاعب الباص جاك باتلر.

بالطبع، أضاف الكثير للموسيقى المتماسكة وجودُ عازف إيقاع محترف، وآلة الباص التي أعطت عمقًا معاصرًا واحترافيًا للموسيقى. ورغم التحول في الهيكل البنائي، إلا أن الفرقة لم تتخلّ عن تبنيها لفكرة الفن الفطري، وإن كان مختل التنفيذ؛ فالأغنية الفطرية-البدائية لا تعني التكرار الممل للجملة اللحنية حتى تفقد قيمتها، والبساطة في التوزيع لا تعني التشابه والتقصير في بذل المجهود، والغناء الحر لا يتسق مع مفهوم التأليف اللحني والتوزيع في الوقت الذي تتخبط الفرقة بين تصريحها تبني كليهما. كما أنّ الغناء الحر ذاته لا يعني الصراخ المستمر والافتعال والبعد عن النغمات الصحيحة أغلب الوقت بحجة "الغجرنة".

فمثلًا، إن أكثر الأشكال حنكة وحرية واعتمادًا على الارتجال من غناء الغجر؛ هو الفلامنكو، الذي بقي منذ العصور السحيقة حتى اليوم فنًا قائمًا بذاته، مثله مثل كل ما استمر من أغاني الأجداد ليصلنا اليوم. يقوم الأمر على الجودة في انتقاء النغمات والارتجال؛ أي التلحين اللحظي للكلمات –الذي أصبح جزء منه ذا قوالب متعارف عليها في ما بعد مثل المواويل- وأيضًا قائم على التنافر النغمي المحسوب الذي يؤدي في النهاية إلى اتساق هارموني مع الآلة المصاحبة-الجيتار.

هذا ما لم تستطع مغنية الفرقة تحقيقه، من خلال إصرارها -الذي يفسره الفقر الفني- على الغناء طوال الوقت بنفس النغمية والانفعال الواحد المتكرّر المبالغ فيه، والمفتعل أحيانًا؛ حتى تكاد تكون كل الأغاني واحدة، والجملة الواحدة التي نادرًا ما تتغير من بداية الأغنية لنهايتها، والصراخ المستمر، لتصدر جوًا من الميديوكرية كرّست له المحاولة المرئية اليائسة لخلط الهويات غير المبرر تحت اسم الصهر fusion، رغم أنه كان كافيًا لتصدير هذه الفكرة اختلاف ثقافات المشاركين أنفسهم.

إضافة إلى هذا، ثمة محاولات غريبة لتبني الزي الهندي وغيره، والرقص التشنجي المرتبك غير المفهوم الذي تقوم به مصاحِبةً للغناء، والذي لا يمكن تصنيفه تحت أي نوع، حتى الارتجال المعاصر الحركي؛ ما يترك انطباعًا بأنها لا تملك مضمونًا ترتجله أو ترتجل منه حتى، وأنها لا تملك أدنى فكرة عما تفعل؛ وهذه مسؤولية تقع على عاتق كل من يمتطي مسرحًا أيًا كان حجمه ليقدم نفسه بوصفه صاحب مشروع.

المساهمون