ما الذي يدفع شاباً فى مقتبل عمره أن يُغادر وطنه الجميل تونس ذا الجغرافية الساحرة، والتاريخ المجيد، والمُستقبل الذى يبدو مشرقاً؟؟، ليستقر وسط الفيافي القاحلة، والألغام المُتفجرة، والمخاطر المتحققة فى مدنية الموصل العراقية أو في محافظة الرقة السورية، ليصبح جندياً مخلصاً أو قائداً مقاتلاً فى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تاركاً وطنه تونس الذي هو فى أمس الحاجه إلى جهده وعرقه وحماسته.
ميلانو أو الموصل
فى محاولة لفهم الدوافع والأسباب التى تحفز الشباب التونسي وتدفعهم نحو الالتحاق بداعش، كان لقاؤنا على قارعة مقهى مشهور مقابل وزارة الداخلية فى شارع الحبيب بورقيبة مع مجموعة من الشباب التونسي. وفي بداية اللقاء عبرت لهم عن سعادتى بأجواء الحرية المشهودة فى تونس بعد الإطاحة بنظام بن علي المستبد، ولكن لم أتلق رداً على كلامي، وأصبح الصمت سيد الموقف لدقائق حتى نطق الشاب محمود عبد المولى قائلاً: أي حرية وأي ثورة يا أستاذ لم يتغير شيء فالأمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية مازالت كما أيام بن علي، لامكان لنا نحن الشباب فى هذا البلد، وأنا ليس أمامي سوى مسارين أما السفر إلى ميلانو أو الجهاد في الموصل، فقلت له لماذا اليأس؟؟ فجاءت إجابته بكل وضوح: لا يجدي إلا الغضب، فرأس المال المتوحش مازال يمسك بتفاصيل اللعبة السياسية والسوق الاقتصادية، والأحزاب تتقاتل من أجل مصالحها الأيديولوجية، والفقراء زادوا فقراً، والأغنياء أصبحو أكثر غناً. وهنا نطق شاب جالس على يساري ويُدعى أشرف ندا فقال: المرحلة القادمة ستشهد تونس (ثورة المُنتحرين)، وهذا النوع من الثورات لايُبقي ولايذر؛ فثورة الجياع يمكن السيطرة عليها بضمان الحقوق الاقتصادية، أما ثورة المنتحرين فهي لن تتوقف حتى تعصف بالجميع.
ومن هذا الحوار تكشّف لي السبب الأول الذي يقف وراء انضمام شباب تونس لداعش وهو: سلطان اليأس المُتفشي الضارب بجذوره وسط جموع الشباب التونسي.
بعد انتهاء اللقاء الأول، قررت الاستماع لوجهة نظر مجموعة أخرى من الشباب والفتيات التونسيات، فالتقيت بـ( قيس وغفران ورُبى وابراهيم) وهم مؤسسو منظمة رواد التغيير والتي تهتم بتدريب وتثقيف الشباب التونسي على ثقافة الحوار والتواصل. وكان سؤالي المباشر لهم لماذا تونس الأولى عربياً فى تصدير الشباب إلى تنظيم داعش؟؟ فقال قيس: السبب هو غياب المشروع الوطني الجامع، نحن في تونس نعيش بلا حلم وطني جامع له قدرة على شحذ همة وحماسة الشباب، نقف أمام قوى سياسية تتصارع أيديولوجياً وكل طرف يعتقد أنه هو القادر على العبور بتونس نحو فضاء الحرية والتنمية وحده، وهنا تدخل إبراهيم بسؤال مهم فقال: ماذا تقصدون بالحلم الجامع؟؟ فأجابت رُبى: مثل الحلم الماليزي أو السنغافوري، فنحن لم نسمع أحداً من الساسة التوانسة يحدثنا عن المستقبل وملامحه، وإنما يُكلموننا عن المشاكل، وهذا أمرغير جاذب للشباب المتفجر حماسة ويحب أن يُشارك في صناعة حلم كبير وعريض، ومن هنا تصبح داعش جاذبة للشباب لأنها تبيع لهم الأحلام. وفي ختام حواري معهم حصلت على:
السبب الثاني الذى يقف وراء قدرة داعش على جذب الشباب التونسي لها ويتمثل فى غياب الحلم الوطني الجامع.
حلم الخلافة
توجهت صوب الخبراء والمثقفين لمعرفة رأيهم فى المسألة، فكان لقائي مع جابر القفصي المتخصص فى علم الاجتماع بمركز مسارات للدراسات الفكرية، ونقلت له أولاً وجهة نظر الشباب السابقة، فقال أعتقد أن هناك أسباباً أعمق من ذلك، ومنها هيمنة العلمانية المتطرفة على المجال الثقافي والإعلامي والتربوي في عهد الرئيس السابق بن علي، والذي فرض العلمانية بالقهر والعنف، وبطبيعة الأشياء لكل فعل رد فعل، فنشأ التطرف الإسلامي كرد فعل لفرض الطرح العلماني بقوة السلطة على المجتمع، وهذا خلق جيلاً من الشباب ناقماً على النظام السياسي وكل مؤسسات الدولة، لأنها فى نظره تحارب الإسلام. ولمّا هبت ريح الثورة، وانفتح باب الحرية عبّر الشباب عن أفكارهم الأصولية الدفينة والتي يعتبرونها من صميم الدين (مثل حلم الخلافة الإسلامية، والدولة الإسلامية) وقد تقاطع هذا مع تنامي خطاب داعش الأيديولوجي فكان ذلك محفزاً للعديد من الشباب للانضمام لداعش. وبهذا الطرح نُدرك أن السبب الثالث الذى يقف وراء تغذية داعش بالشباب التونسي: هو فرض الرؤية العلمانية المُتطرفة على تونس.
أما نور الدين الزاوي الباحث فى قضايا الفكر المعاصر والتراث وبناء المجتمع المدني، فيرى أن السبب الرئيس لالتحاق الشباب بداعش يكمن في خلو الساحة التونسية من حركة دعوية جاذبة؛ فالدعوة في تونس ومنذ عقود مقتصرة فقط على خطب الجمعة ودرس أسبوعي قُبيل صلاة الجمعة، وكلاهما ممل وغير جذاب، ولا يتناول القضايا العامة الكبرى التي تشغل بال الشباب. وحتى بعد الثورة الجمعيات الدينية كانت إما سلفية تقوم بنشاطات دعوية واجتماعية مثلما كان عليه الأمر مع أنصار الشريعة التي باتت محظورة لتورطها في الاغتيالات السياسية سنة 2013، وإما جمعيات قريبة من النهضة تقوم بنشاطات خيرية وليست دعوية عموماً، ويُضاف لذلك فوضى الفتاوى وتدني مستوى الخطاب الديني في القنوات الدينية والذي جعل المنظومة الفكرية للشباب غير مرتبة وغيرمتناغمة بل متناقضة، مما سهل اختراقهم واستقطابهم وتجنيدهم في صفوف داعش. وعند هذه النقطة نكون وضعنا أيدينا على السبب الرابع الذي ساعد فى تغذية قلب داعش بالدماء التونسية الشابة: هو غياب المؤسسات والجميعات الدعوية التونسية القادرة على استيعاب طاقة الشباب.
فى الختام نقول إن ذكر هذه الأسباب الأربعة التي تدفع الشباب التونسي للانضمام لداعش لا يعني أنه ما من أسباب أخرى، وإنما هذه محاولة منا لفتح الباب واسعاً أمام جهود المُهتمين للغوص خلف الظاهرة، ومحاولة تفسيرها ووصف الدواء المناسب لها.