وثائقي "عمال النظافة"... ما يلغيه الإنترنت لا تلغيه الحقيقة

12 مارس 2018
مخرجا "عمال النظافة" هانز بلوك وموريتز رايسويك (Getty)
+ الخط -
أصبح الجزء الأكبر من حياة الكثيرين في العالم، خاضعاً لسيطرة الشاشات والأجهزة الذكية، فمتوسط عدد الساعات التي يقضيها مستخدمو الإنترنت على وسائل التواصل الاجتماعي هو حوالي 8 إلى 10 ساعات يومياً. 

ولما كان من السهولة بمكان نشر الصور والأفلام بعدد لا نهائي وتحت أي ظرف كان، فإن وجود الرقابة المعنية للحفاظ على الخصوصية ومنع انتشار العنف والجرائم، هو ضرورة حتمية للحفاظ على الحد الأدنى من حقوق الإنسان المتعلقة بنشر المواد عبر الإنترنت. يكشف الفيلم الوثائقي "عمّال النظافة" The Cleaners لمخرِجَيه هانز بلوك وموريتز رايسويك، من إنتاج 2018، عن العمال المجهولين الذين يقومون بتدقيق كل صورة وملف يتم تحمليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، غوغل، تويتر وغيرها: ويقررون بناء على قواعد عامة يتلقونها إن كانت المواد المنشورة صالحة للبقاء، أو يجب حذفها.

تُوظِّف شركات التواصل الاجتماعي الكبيرة هؤلاء الأشخاص في الفيليبين وعدة مناطق أخرى في شرق آسيا. حيث تجتذبهم عبر إعلانات صغيرة عن العمل لديها، دون ذكر واضح لماهية العمل. وبعد توقيع العقود يتم الكشف عن طبيعة المهام التي سيُكَلفون بها، فتقوم هذه الشركات بفرزهم إلى مجموعات منها من يهتم برقابة أفلام البث المباشر التي تختص بالأذى الجسدي الشخصي، ومنها من يهتم برقابة انتشار المواد الإباحية، وغيرها أيضاً ممن يتولى رقابة الأفلام المصورة القادمة من التنظيمات الإرهابية حول العالم، وأيضاً أفلام العنف المنزلي والإساءة للآخرين.

ويعمل هؤلاء الأشخاص في أبنية كبيرة دون أسماء، يملك كل منهم طاولة صغيرة وحاسوباً للعمل، وتمتد ساعات عملهم إلى فترات طويلة، حتى إنهم لا ينامون في بعض الليالي. لكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر، فلمّا كان عليهم مراجعة كل المواد التي تراها البشرية على الشاشات وجدران فيسبوك، فإن المسؤولية الكبيرة في إبقاء هذه المواد أو حذفها تقع على عاتق "عمال النظافة"، وتؤثر بشكل مؤذٍ على مستوى حياتهم وتوازنهم النفسي. ورغم أن هؤلاء الأشخاص يُجبرون عند توقيع العقود على إبقاء هوياتهم سرية، وكتم أسرار العمل، إلا إن مُخرِجي الفيلم تمكنا من الوصول إلى بعضهم لكشف الحقيقة.


تَذكر إحدى العاملات، أن بعض هذه المشاهد لا يمكن أن يفارق الذاكرة بل يسكنها ويعود بشكل دائم لتذكيرها بأنها قامت بحذف صورة كي لا يراها أحد، ولكنها موجودة في الواقع في مكان ما. ومن أكثر ما يثير الغضب والاستياء لديها هي مشاهد اغتصاب الأطفال والإساءة إليهم ونشر المواد الإباحية التي تنتهك حقوق الطفل وتهزّ كيان الإنسانية، دون أن يكون للعدالة أي دور تجاه هذه الأفعال. ويقوم بعض هؤلاء العمال بالانتحار في حوادث ليست نادرة، وأما البقية فلا يتمكنون من الاستمرار بهذا العمل لمدة تتجاوز الستة أشهر كحد أقصى.

وتلجأ العديد من الحكومات حول العالم للطلب من شركات التواصل الاجتماعي الكبرى أن تحذف أي شيء يمس بسيادتها أو يحرض على الثورات والحركات المدنية والسياسية، فتتجاوب هذه الشركات بمنع المواد التي يمكن للأشخاص الذين يتصفحون الإنترنت من داخل هذه البلدان أن يتابعوها. ومن ضمن الأمثلة الواضحة هي حكومة أردوغان التركية، فلا يمكن الحصول على صور أو مشاهد لأي من الممارسات المُعارضة للحكومة التركية الحالية عبر عنوان إلكتروني تركي، ويتساءل "عمال النظافة" عن حقيقة عملهم، فهم لا يهتمون فقط بحذف المحتوى المُسيء، ولكنهم أيضاً مُسَيسون، ومساهمون في حجب الحقائق.

بناء على هذا تقوم، بعض المنظمات الإنسانية المختصة بالتوثيق، بأرشفة الأفلام والصور القادمة من مناطق النزاع حول العالم مثل سورية، قبل أن يتم حذفها من الإنترنت، فتجميع هذه المواد في مكتبات إلكترونية خاصة بهم، يساعد على توثيق الانتهاكات وجرائم الحرب، والتعرف على مُرتكبيها، ومواقع حدوثها. يبدو ذلك ضرورة ملحة للوصول إلى العدالة المُنتظرة في مناطق النزاعات التي لا يتم التواصل معها إلا عن طريق النشطاء والصحافيين المدنيين المتواجدين داخلها، والذين يقومون بتحميل موادهم المصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أساسي.

يعرض الفيلم وجهات النظر المختلفة حول ما يقوم به هؤلاء العمال، ويَظهر الفنان السوري، خالد بركة، خلال الفيلم وهو يقص صور الأطفال الضحايا ويترك فراغات أشكالهم ضمن الصور، ومن ثم يعيد تحميلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي كي لا تتعارض مع سياسات الحذف التي يجريها فيسبوك، يقول خالد خلال الفيلم: "يجب علينا أن نستمر بإزعاج العالم بهذه الصور، هؤلاء الأطفال يموتون بسبب التجاهل العالمي". كما يطرح تساؤلاً عن هويات هؤلاء الأشخاص الذين يقررون ما يجب حذفه من الإنترنت، وما هي مرجعياتهم العرقية والدينية والسياسية، وإن كان ذلك يؤثر في القرارات التي يتخذونها عن حذف أو إبقاء المواد المنشورة. ترشح الفيلم للجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان "سن دانس" السينمائي، كما ترشح لجائزة منظمة العفو الدولية لأفضل فيلم وثائقي.
المساهمون