ممثلات على حافة الهاوية

14 ديسمبر 2016
ناتالي بورتمان في "جاكي" للتشيلي بابلو لارّين (العربي الجديد)
+ الخط -
تحتلّ النساء، كشخصياتٍ سينمائية بالدرجة الأولى، مكانةً أساسية في أفلامٍ عديدة، تُشارك في الدورة الـ 13 (7 ـ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2016) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي". شخصيات حقيقية ومتخيّلة، تعكس شيئاً من الاجتماع والمسارات اليومية، وتُبرز موقع المرأة في العائلة والمجتمع والسياسة والحبّ والانفعال.

يرتكز فيلم الافتتاح، "الآنسة سلون" للإنكليزي جون مادِن، على شخصية امرأة (جيسيكا تشاستين)، تعمل في أحد مكاتب "جماعات الضغط (لوبي)" الأميركية، وتُعتَبر الأفضل والأهم والأخطر. لكنها تُصبح هدفاً يُراد القضاء عليه، لرفضها العمل لمصلحة المدافعين عن تجارة الأسلحة الفردية واقتنائها، داخل الولايات المتحدة الأميركية، من دون قدرة أحدٍ على تطويعها أو تحطيمها، رغم أنها تعاني الأمرّين في حياتها اليومية الخاصّة والمنعزلة والمنغلقة على نفسها.
ولأن فيلم الافتتاح يروي فصولاً من سيرة حياة تلك المرأة، التي تُدعى إليزابيت سلون، فإن التنبّه إلى بعض الشخصيات النسائية، المتحوّلة إلى نواة درامية وجمالية وإنسانية في أفلام روائية ووثائقية مختلفة، يُلحّ على التوقّف عند مصائر هؤلاء النسوة، وأفعالهنّ التي تمتلك تأثيراً في الفرد والجماعة، وفي التاريخ والجغرافيا، وفي العالمين العربي والغربي، وإنْ لم ينجحن جميعهنّ في ترك أثرٍ إيجابي، دائماً.
أدائيّاً، قدّمت تشاستين أحد أجمل أدوارها التمثيلية، في الأعوام القليلة الفائتة: شخصية تتطلّب إمكانيات جسدية ومعنوية ونفسية هائلة، لانخراطها في مهنة التلاعب بكلّ شيء، وتدمير كلّ أحد، من أجل بلوغ المبتغى، من دون تناسي وقوعها في فراغٍ عاطفي وإنساني قاسٍ، ووحدةٍ فظيعة، وجفافٍ قاتلٍ في المشاعر الإيجابية تجاه الآخرين، فهي مولودةٌ هكذا، ولديها "هذه الموهبة" منذ صغرها، كما تقول. بينما تتوصّل الممثلة، في مشاهد كثيرة، إلى حِرفية أداء، معطوفة على توغّل في تناقضات الشخصية، وانفعالاتها المتضاربة، وصلابتها المؤدية بها إلى أفعالٍ حادّة.
والممثلة، إذْ تتفوّق على نفسها في تقديم دورٍ قاسٍ لشخصية قاسية، تتنافس مع الأميركية ناتالي بورتمان، التي تؤدّي دور شخصية حقيقية، هي جاكلين كينيدي. لن تبتعد شخصية تشاستين عن الواقع، وإنْ لم تكن حقيقية في الفيلم، على نقيض شخصية الأرملة في "جاكي" (برنامج "سينما العالم")، للتشيلي بابلو لارّين. هنا أيضاً، يُمكن القول إن بورتمان تزداد حيوية وجمالاً سينمائياً، بتقديمها شخصية امرأة، تجد نفسها ـ بعد نحو عامين على دخولها البيت الأبيض، سيّدة أولى في بلدها ـ أمام أزمة متعدّدة الجوانب، تبدأ بالذاتي (اغتيال زوجها أمام عينيها والتأثيرات النفسية والروحية والمعنوية عليها، ما يؤدي بها إلى طرح أسئلة على نفسها، وإلى عيشها أوهاماً وكوابيس) والعام (ترتيبات ما بعد الاغتيال على مستوى البلد، ومواجهة تحجّر السياسة والأمن).
يرتكز "جاكي" على لقاء يجمع أرملة كينيدي بصحافي، يريد سرد حكايتها بُعيد جريمة اغتيال زوجها في 22 ـ 11 ـ 1963، فتعمل على تبيان الأسس الحقيقية للإرث الذي يتركه الرئيس الـ 35 للولايات المتحدة الأميركية. لكن الفيلم يستعيد ليس فقط لحظة الاغتيال، وما يليها من تداعيات ذاتية وعامة، بل أيضاً لقاءً تلفزيونياً تظهر فيه جاكي أثناء تجوّلها في أروقة البيت الأبيض، متحدّثة عنه وعن غرفه التاريخية، وعن خططها التجديدية فيه، وعن علاقتها بالرئيس. بالإضافة إلى تفاصيل حياتية أخرى.
في هذا، تتحوّل ناتالي بورتمان إلى جاكلين كينيدي بامتياز: ارتباكها وقلقها وخوفها أثناء الاغتيال وبعده بقليل، وتبيان مظاهر التماسك والانضباط واستعادة زمام الأمور، وتذكّر الأيام الجميلة، وتمزّقها النفسي والروحي أمام الهالة الكبيرة لزوجها وشقيقه روبرت، كما أمام الوضع العام. وفي الظروف المأسوية تلك، لن تتردّد عن الاحتفال بالعيد الثالث لميلاد ابنها، وجثمان زوجها لم يُدفن بعد. كأن بورتمان، بهذا، تتحرّر من سطوة التاريخ، وتمارس دورها ممثلةً تحترف محو الحدّ الفاصل بين الشخصية السينمائية ومهنة التمثيل، لمصلحة الفيلم، الذي يبدو معها أجمل وأقوى وأقدر على التأثير.
المنافسة بين تشاستين وبورتمان، يُقابله تكاملٌ تمثيلي بين الفرنسية الإيطالية فاليريا بروني تاديشي والإيطالية ميكايلاّ رامازوتي، في تأديتهما شخصيتي بياتريس مورانديني فالديرانا ودوناتيلاّ موريلّي. تكاملٌ يرتكز عليه فيلم "في ذروة السعادة" للإيطالي باولو فيرزي: امرأتان تعاندان أقداراً تحاصرهما في بؤرٍ ضيّقة، وتسعيان إلى الخروج صوب العالم، بآفاته وتناقضاته وآلامه ومسرّاته كلّها، في رحلة تأخذهما إلى مجاهل وغرائب، لكنها تجعلهما تكتشفان شيئاً من فرحٍ وهيامٍ في فضاءات مفتوحة على كلّ شيء. والممثلتان معاً تجعلان السرد أسلس وأعمق، وإنْ بمواربة درامية بهيّة، في مقاربة أحوال ذاتية، مفتوحة على تمزّق ورغبة في الذهاب إلى أبعد ما يُمكن، وإنْ يتخلّل الذهاب مصاعب وأهوال (يُعرض الفيلمان في برنامج "سينما العالم").

في الأفلام العربية، الروائية والوثائقية، تظهر المرأة في حالاتٍ مختلفة، وأعمارٍ عديدة. فمع اللبناني هادي زكّاك، تحتل الجدّة واجهة المشهد، في "يا عمري"، كي يستعيد المخرج معها عمراً وحكايات ومعانيَ للحياة والبلاد والناس. ومع المصرية إيمان كامل، يُصبح العمر سياسياً واجتماعياً ونضالياً، تصنعه نساء عاملات في شؤون عامة، على مر تاريخٍ بعيد وقريب على حدّ سواء، في "جان دارك مصرية" (الفيلمان في مسابقة "المهر الطويل"). وتتابع التونسية كوثر بن هنيّة، في "زينب تكره الثلج" (برنامج "ليال عربية")، حكاية زينب خليفي، على مدى 6 أعوام متتالية، بدءاً من لحظة وفاة والدها في حادث سير، واستعادة والدتها وداد قصّة حب قديم مع شاب مقيم في كندا، لديه ابنة من زوجة سابقة. يمزج الفيلم تقنية الوثائقي بسرد روائي منبثق من وقائع العلاقة بحدّ ذاتها، وبانفتاحها على تساؤلات الغربة والبلد والهوية والحب، والإسلام والعلمانية، والغرب والشرق، والصداقة والتأقلم والطلاق وغيرها، من خلال عينيّ زينب، التي تؤدّي دوراً لافتاً للانتباه، بفضل شخصيتها القوية، ونُضجها العقلي والإنساني والثقافي.




دلالات
المساهمون