غرايزباغ وجدران أوروبا: "التشويق الرقيق"

غرايزباغ وجدران أوروبا: "التشويق الرقيق"

05 سبتمبر 2018
ماينهارد نومان في "وسترن": كسر العزلة (فيسبوك)
+ الخط -
"يستعرض الفيلم تشويقًا رقيقًا، ويجمع ـ بمهارة ـ بين التأمّل (المناظر الطبيعية) والحركة/ التشويق، ويملأ النصّ باستعارات عديدة، تتعلّق بالخوف من المجهول وحاجز اللغة وانشقاق أوروبا"... هذا ما يكتبه جاك موريس في مقالة له عن "وسترن" (2017) لفالايسكا غرايزباغ (1968)، منشورة في المجلة الأسبوعية الفرنسية "تيليراما" (25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017). 

تحليل يختزل النواة الدرامية لفيلمٍ يُعرض، للمرة الأولى دوليًا، في مسابقة "نظرة ما"، في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي.

"التشويق الرقيق" يبدو مناقضًا لكمٍّ هائل من التوتر والقلق والارتباكات، المتفشّية في نفوس عمّال ألمان يُكلّفون بمهمّة في منطقة واقعة على الحدود البلغارية اليونانية. التشويق "رقيقٌ"، لأنّ الأهمّ بالنسبة إلى غرايزباغ كامنٌ في سردٍ دقيق لتفاصيل اليوميّ في بلدٍ، يبدو أن وقوعه على مسافة جغرافية "قريبة" (نسبيًا) من بلد هؤلاء العمّال لن يحول دون اتّساع المسافة متنوّعة الأشكال والأنماط في المستويات كافةً. كأنّ "وسترن" نتاج لحظة آنيّة تعانيها القارة القديمة جرّاء الانقلابات الحاصلة في مناطق ساخنة في العالم، ونتاج تمزّقات داخل أوروبا نابعة من عجزٍ عن إيجاد مشتركات أوروبية في أسئلة الهوية والانفتاح والهجرة والعمل. لكنه، في الوقت نفسه، منبثقٌ من تراكمات في الزمن والتبدّلات المتعلّقة كلّها بتاريخٍ أوروبي متأتٍ من نهاية الحرب العالمية الثانية، بما تحمله تلك النهاية من مواجع وتمزّقات في الروح أكثر منها في الجسد، ومن أسئلة الهوية والعلاقات والتقوقع والعزلات والتواصل، رغم الوحدة (الأوروبية) المصنوعة لاحقًا.

تناول "وسترن" الآن حاصلٌ لاختياره في برنامج النسخة الـ5 لـ"أسبوع الفيلم الألماني" في بيروت، التي تُنظّمها "جمعية متروبوليس" بالتعاون مع "معهد غوته ـ بيروت" بين 13 و23 سبتمبر/ أيلول 2018 في سينما "متروبوليس" (الأشرفية). الاختيار دعوة إلى مشاهدة سينمائية مفتوحة على الإنساني، وإلى معاينة أخلاقية تتساوى والبحث الفني والدرامي والجمالي في أحوال بيئة (أوروبا) تطرح أسئلة الاندماج والانفتاح وبلورة تواصل اجتماعي وثقافي ومسلكيّ مع آخرين قادمين إليها من أنحاء مختلفة من العالم، رغم أن النقاش السينمائي الذي يحرّض الفيلم عليه متعلّق بداخلٍ أوروبي يواجه أحد أقسى تحدّيات الوجود، مع بزوغٍ متجدّد ليمين متطرّف في ألمانيا نفسها، وفي دولٍ أوروبية أخرى.



عمّال ألمان يأتون إلى موقع قائم على الحدود بين بلغاريا واليونان. غالبيتهم تتحاشى كلّ تواصل مع السكّان المحليين. وحدهما ماينهارد (ماينهارد نومان) وفنسنت (راينهارد فيتريك)، المشرف عليه، يسعيان إلى كسر الصمت. الهوة بين الطرفين لن تكون لغوية وثقافية فقط، فهي امتداد لفوارق اجتماعية ـ اقتصادية في أوروبا "التي لا تُحقِّق المساواة". وإذْ يتقدَّم ماينهارد على الشخصيات الأخرى كلّها، بتمكّنه من إمساك خيوط اللعبة السينمائية والصدامات الواقعية والتفاصيل الحيّة؛ إلا أن الآخرين يُكملون بناء المشهد بتحركات وأقوال واشتباكات وعلاقات، من دون أن يحولوا دون تبوّؤ ماينهارد صدارة الحكاية وتطوّراتها المختلفة.

يملك ماينهارد ملامح توحي بقسوةٍ وصلابة، كما بلامبالاة واستقالة من أمور الدنيا ومصاعبها، كأنه يكتفي بأشياء قليلة تُعينه على عيشٍ صامتٍ. صمته الطاغي على كلامه غير منبثق من جدار اللغة بينه وبين أبناء البلدة، فهو يُتقن الألمانية ويتحدّث إلى زملائه الألمان بها. هذا صمتٌ مصنوع بانسحابٍ إلى الذات، وبعزلة مع الروح، وبرغبة في الحفاظ على مسافة بينه وبين الجميع. لكن هذا كلّه لن يصمد طويلاً، فهو من يُبادر صوب الآخر، وهو من يُحاور الآخر وإن بخليطٍ جماليّ بين حركات اليد وتعابير الوجه من جهة أولى، وكلمات لعلّها الأقدر على تعبيرٍ مفهومٍ أمام هذا الآخر نفسه، من جهة ثانية. هو الذي يتخطّى الحاجز، وهو الذي يخترق عزلة البيئة، وهو الذي يتواصل مع أبناء تلك البلدة التي يأتيها وزملاؤه لتنفيذ عملٍ.

في هذا كلّه، يؤدّي الممثل ماينهارد (نومان) دورًا يرتكز على تناقضات وارتباكات وأهواء، تدفع العامل ماينهارد إلى إزالة الفواصل بصمتٍ وهدوء، أو بغضب مضبوط. أداء يتكامل واستخدام فالايسكا غرايزباغ أسلوبًا هادئًا في كشف الغليان الحاصل في نفوس أفرادٍ يلتقون في بيئة تبدو كأنها "مستقلّة" في انكفاء ريفيّ، وفي تقديم صورة سينمائية عن وقائع العيش في زمن التجاذبات الثقافية والحياتية القاسية.

المساهمون

The website encountered an unexpected error. Please try again later.